صعب عليّ أن أمشي خلف نعشك. وإلاّ لكنت كمن يمشي في جنازته بحضور نفسه. تحدّثني نفسي المتمرّدة دائما على الألم بألاّ أمشي خلف نعشك كي لا يأخذني بعضهم مأخذ القطيع... يذبح منه القدر من يشاء... وعلى البقية الطاعة العمياء... أنا أكره الموت والبلى... ويعجبني، كما يعجبك، روح الحياة وطيبها... أحب الحياة حتّى آخر قطرة، ليس فقط لشخصي غير المرحّب به، بل لكل من سكنه هاجس الثقافة التونسية، هذا المرض العضال والمستوطن والمستشري بين أوصال فقراء هذا البلد، من فقراء لثقافة جديرة باسمها... إلى فقراء إلى الله على ما ملكت أيمانهم... كيف يطلب من مثلي تشييع جثمان هو جثماني ضرورة ومعرفة وقوّة؟ أ إلى هذه الدرجة وصل الإستخفاف بقيم الحياة وبقيم الموت؟ تبّا لي لو سمحت لنفسي بالوقوف أمام نعشك وأنت مسجّى عليه، لأرقبك وقد عبرت إلى الضّفة الأخرى، ضفة الأمان الأبدي، حيث لا سيطرة لأحد على جنونك... يبقى أنّك لم تستأذن منّا قبل استئذانك، ونحن على خورنا الوجودي، وصلافتنا الفلسفية... نغفر لك انصرافك دون استئذان... ونغفر لك تلكم الشّحنة من المرارة التي تركتها في حلوقنا، كي نقول صاغرين قانعين بما فعلته بنا و بما فعل بنا القدر "إنّا لله و إنّا إليه راجعون". أن ترحل فتلك ليست مشكلة بالمرّة. المشكلة أنّك انسحبت لتتركنا وحدنا نعاني ما نذرت حياتك لمقاومته. يكذب من يقرأ موتك البدني على أنّه يتم. ليس كذلك أبدا. هو غدر وثكل لاحظّ لمختار بينهما على رأي الأعشى الأكبر الرّابض حيث أنت الآن. تبقى صناعة الموت، حتّى لو كانت طبيعية "Bio" صناعة ممجوجة، جنّدت حياتك وموتك لمقاومتها... لم تبخل على هذه القضية بقلبك النّابض، وبأدبك الجم وبأخوّتك المخجلة لحيائنا ونحن نتعامل معك... كي تترك قلبك أخيرا نذرا لقضية لن تحلّ غدا أو باكرا... وهذا أكيد... لن أستطيع الوقوف على نعشك لأنّني أصغر منك حيّا فكيف لي أن أتجاوز هامتك وأنت تكلّمني ميّتا؟ لن أجرأ على الوقوف كي لا يظنّ بعض المتحذلقين وما أكثرهم في زمننا هذا، أنّني سلّمت بأنّ حتمية الموت تعني رفض حتمية الحياة. لن أؤبّنك، لأنّ موتك وخبر موتك ومراسم توديعك كانت كلّها بشرية... تنضح بنقائصنا في مجتمع لم نعد نعرف موقعنا منه... والله يا سمير، لو أبّنتك لما طاوعتني اللغة... فغيابك لم يترك في القلب ولا في الفكر ولا في الوجدان فسحة للحزن... أي لغة قصصية أو مسرحية يمكن أن تفي بالتّعبير عن خسارتنا لك؟ المشكلة يا سمير ليست في أن تموت. المشكلة هي في أن نبقى نحن أحياء، نتفرّج على روّادنا وأحبّاءنا تلعب بهم يد المنون. وننتظر دورنا كقطيع الدجاج... كي يذبح القدر أحدنا. لنخرج لتشييعه ولسان حالنا يقول "من القادم؟". الآن أستطيع أن أقول وبالفم الملآن، إنّ أنطولوجيا المسرح التّونسي قد بلغت منتهاها... واستوفت الغاية من وضعها، وحق لها أن تدخل التّاريخ، في غفلة من رداءتنا الفكرية المقيتة، وانتهازيّاتنا الإيديولوجية الصغيرة، وضعفنا المادّي الذي يمسح تلك المسافة الفاصلة بين العمل الثّقافي والأدبي الملتزم... ومجرد الإرتزاق... لا أخفي عليك أنّني أغبطك الرّحيل. كنت أتمنّى أن توصلني الفلسفة والأدب والفنّ معا قبلك إلى حيث أنت الآن. إلاّ أنّ الدّنيا مازالت على خذلانها لي. فاعذرني يا سمير، فأنت أعظم وأعظم وأعظم...و أنا لأنّي حيّ... ضئيل...ضئيل... ضئيل...