مصر تصدر بيانا توضيحيا حول تخصيص قطعة أرض بالبحر الأحمر    يوسف طرشون: قانون التشغيل الهش انتصار تاريخي للكرامة الاجتماعية والحرب على شركات المناولة مستمرة    مقتل 49 شخصا في فيضانات جنوب أفريقيا    ترامب: نُخلي موظفينا من الشرق الأوسط لأنه ''مكان خطير''    عدد القوات الأمريكية المنتشرة في لوس أنجلوس تجاوز عددها في العراق وسوريا    عاجل/ المعارضة المصرية تطالب بالسماح ل"قافلة الصمود" بالدخول..    كأس العالم للأندية: "كاميرا الحكم" لن تعرض الأحداث المثيرة للجدل    نادي القادسية الكويتي يتعاقد مع المدرب نبيل معلول    بعد قرار ليفاندوفسكي .. المدرب ميخال بروبياش يقدّم استقالته من تدريب منتخب بولندا    تذاكر مباراة ريال مدريد والهلال السعودي الأغلى في كأس العالم للأندية    كأس العالم للأندية : الإنقليزي غريليش خارج قائمة مانشستر سيتي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..حرارة تصل إلى 41 درجة..    المنستير: وصول أول رحلة إياب للحجيج الميامين بمطار المنستير الحبيب بورقيبة الدولي    طقس الخميس: الحرارة تصل إلى 41 درجة بأقصى الجنوب مع ظهور الشهيلي محليا    الصحة العالمية: رصد متحور كورونا الجديد بصورة متقطعة في ألمانيا    اليوم وغدا: تونس دون قطارات    وزارة المالية: قائم الدين العمومي يتجاوز 135 مليار دينار نهاية مارس    قافلة "الصمود" تواصل طريقها نحو معبر رفح وتفاؤل بإمكانية العبور إلى الأراضي المصرية    مصادر إسرائيلية: وحدة "سهم" التابعة لحماس تعدم 12 فردا من "عصابة أبو شباب"    الجزائر.. قرار قضائي جديد بحق ملكة الجمال وحيدة قروج    وزير الخارجية الليبي.. لا يوجد أي تواصل رسمي مع الجانب المصري بشأن قافلة الصمود    إيطاليا تتوج «رقوج» والتلفزات العربية تشيد ب«فتنة» الدراما التونسية ... نحو العالمية    بعد العثور على جثته في منزله بالعمران...أسرار انتحار الطبيب قاتل زوجته طعنا    معدات حديثة وكفاءات جديدة بمستشفى عبد الرحمان مامي لدعم جودة الخدمات    لاغوس نيجيريا تونس ... لأول مرّة في معرض الأغذية    اُلْمُغَامِرُ اُلصَّغِيرُ وَاُلْأَسَد اُلْأبْيَض    محمد بوحوش يكتب: في ثقافة المقاومة    غفت أمّة يعرب وطالت هجعتها    بداية من الغد.. اضراب بيومين في شركة السكك الحديدية    وزارة المالية.. قائم الدين العمومي يتجاوز 135 مليار دينار نهاية مارس 2025    خزندار: الإطاحة ب"شقيف" مروّع الأطفال القُصّر بعد سنوات من الفرار    البنك الدولي: توقع إرتفاع النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 2،7 بالمائة سنة 2025    توزر: وكالات الأسفار بالجهة تدعم أسطولها بسيارات جديدة رباعية الدفع استعدادا للموسم السياحي الصيفي ولموسم شتوي واعد    متابعة نشاط حقل 'عشتروت' البحري    البنك الدولي:الإقتصاد العالمي يتجه نحو تسجيل أضعف أداء له منذ سنة 2008 باستثناء فترات الركود    فتح باب الترشح للمشاركة في الدورة الأولى من المهرجان الفرنكوفوني للفيلم الوثائقي الرياضي    المهدية: عدم تسجيل أيّ عملية غش باستعمال التكنولوجيات الحديثة في اختبارات الدورة الرئيسيّة لامتحان البكالوريا    الإعلان عن قائمة مشاريع الأفلام الوثائقية المختارة ضمن برنامج "Point Doc"    تقديم النسخة الفرنسية من رواية "توجان" لآمنة الرميلي    جندوبة: افتتاح موسم حصاد القمح    عاجل/ وصول أول رحلة عودة من الحج    عاجل -مونديال 2026: 13 منتخباً يحجزون مقاعدهم... فمن سبق الجميع؟    وزير الشؤون الاجتماعية: تونس تعمل على استكمال إجراءات المصادقة على اتفاقيتي العمل الدولية 155 و129    وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تتطلع الى حماية 15 % من السوحل المهدّدة بالانجراف البحري    ''الحريقة'' تغزو الشواطئ التونسية مبكرًا: هل باتت السباحة في خطر؟    ضربة شمس: خطر صيفي يجب الانتباه إليه    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    كأس العالم للأندية : توقيت مباراة الترجي ضد نادي لوس أنجلوس في ناشفيل    البرازيل والإكوادور تتأهلان إلى كأس العالم 2026    الندوة الصحفية لمهرجاني دقّة والجم الدوليين .. الأولوية للعروض التونسية... و«رقّوج» ينطلق من دقّة    عاجل - فضيحة البكالوريا تهز سوسة: أستاذة وشبكة غش تسقط في قبضة الأمن!    عاجل: متحور ''نبياس'' يصل إلى 11% من الإصابات عالميًا... وتونس بلا أي حالة حتى الآن!    المخرج علي العبيدي في ذمة الله    المنستير: مواطن يذبح خروفه فوق السور الأثري يوم العيد...    تطوير القطاع الصيدلي محور لقاء وزير الصحة بوفد عن عمادة الصيادلة    توقيع اتفاقية شراكة بين وزارة الصحة وعدد من الجمعيات الفاعلة في مجال السيدا والإدمان    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    أولا وأخيرا: عصفور المرزوقي    









المسحوق العجيب
نشر في الشعب يوم 20 - 11 - 2010


الإهداء: إلى علي البركاتي احتراما وتقديرا
أنهينا صلاة الجنازة، رفع الجميع رؤوسهم ثمّ تفرّق البعض وتقدّم آخرون من المحمل استعدادا لرفع الميت.
كفكفت دموعا غزيرة وأنا أنظر إلى من سيحمل إلى مثواه الأخير.
لم أكن أصدق أن من تحويه الأخشاب هو صديق العمر، صديقي الذي لعبت معه في أزقة القرية ودروبها والذي طالما بنيت معه قصورا من الرمل على ضفاف النهر واقتسمت معه أعقاب السجائر وقدنا معا مظاهرات صاخبة بين أسوار الجامعة.
رحلة عمر كامل انتهت قبل سن الخامسة والثلاثين بشهور.
في منتصف ليلة العيد مات صاحبي، إثر حادث فضيع وكتب الطبيب في تقريره »الموت ناتج عن كسر بالجمجمة ونزيف داخلي«.
اقتربت من المحمل، انفضّ الجميع احتراما لرغبتي في قراءة الفاتحة على الجثمان واعترافا بحق صداقة طويلة يعرفها القاصي والداني.
فجأة خيّل إليّ أنّ الجثة تتحرّك، تعوذت باللّه من الشيطان وقرأت ما يسّر من الذكر الحكيم بعد الفاتحة.
تثبت في الجثّة الهزيلة، الساق اليمنى تتحرّك والرأس يجاهد ليرتفع والبطن يعلو وينخفض.
قبل أن يرفع الجثمان التفت إليّ من حولي، كان مؤدب القرية على يميني و»بشير الوصيف« على يساري ومن خلفهم كان أحدهم يحوقل فيما انبرى عم الفقيد يردّد: »كان رجلا لا مثيل له يا حسرة على شبابك يابني«.
كنت أرى وأسمع، لست في حلم ولست أهذي، أعدت النظر إلى مؤدب القرية الذي تأهب لإعطاء إشارة رفع الجثمان.
نظرت في عينيه تماما وأشرت إلى ما أرى فلم ينبس ببنت شفة.
مرّت لحظات كالدهر وأنا أريد أن يكتشف الجميع ما أرى لكن ما من ردّة فعل.
ورفع الجثمان وبدأنا نشق طريقنا وسط الأنهج، فجأة سمعت ضحكة عالية، دوّت الضحكة حتى ارتجت لها المباني وهرب حصان يجرّ عربة فسقط الشيخ العجوز متأوها لاعنا الدابّة وبني جنسها.
نظرت إلى من حولي، كان الجميع في صمت ووجوم.
دقائق مرّت، حسبتها دهورا ثم دوّت الضحكة من جديد وتلاها الصوت القوي الهادر »ثامر يا أعزّ الصحب، أنت تسمعني، أعرف أنّ صوتي قوي مزعج لكنّهم لا يسمعونه، أنت الوحيد الذي يسمعه وما رأيته إثر صلاة الجنازة حقيقة لا يعتريها شك، تعمّدت أن أتحرّك عندما لمحتك تقترب منّي، سأبدّد كلّ تساؤلاتك، أنا الآن أقرأ أفكارك وأعرف ما يدور بخلدك«.
لا تتعجّب.
كان الكلام ينثال قويا واضحا. كان المتكلّم يقف أمام مصدح وكل الجهات تردّد صدى الصوت القوي الجهوري.
شعرت في لحظة برهبة وظننت أنّ بي مسّا لكنّه طمأنني قائلا:
»أبدا يا صاحبي مابك مسّ. أنت سليم معافى«
قهقه صديقي وسط ذهول وتساؤلات غريبة استبدت بي ورهبة ما لها حدود رغم ما سمعت.
»قلت لك سأبدّد تساؤلاتك فلا تعجب، هكذا قال ثمّ أضاف بعد برهة« هل تذكر الخليط الذي كنت أعده، مسحوق من جماجم الموتى ونباتات جبلية مع تمائم وتعاويذ كنت أقرأها، لقد نجحت تجاربي وحوّلني المسحوق إلى ما ترى، سأقف اثنين وسبعين ساعة على عتبة العالم الآخر، بين الحياة والموت.
وخلافا لما أورده الطبيب في تقريره أعلمك أنّ جمجمتي لم تتكسّر ولم يحصل لي نزيف، كل ما وقع هو هبوط حاد في دورة الدم وشبه توقف للدماغ عن عمله وأكبر طبيب ما كان له أن يثبت غير أنّني أصبحت في عداد الأموات.
حكاية الحادث هي كذبة كبرى.
كنت في الشاحنة قبل الواقعة الأليمة وعند ما أدركت أنّ السائق المخمور يتجّه بنا صوب هاوية عميقة بعدما اصطدم بحافلة شربت المسحوق وسبقت الجميع الى العالم الآخر، كنت أقف على عتبته فيما تجاوزني الجميع الى حيث العدم والفناء.
كنت أرى وأسمع ولا أتكلّم، بعد اثنين وسبعين ساعة من تاريخ الحادث سأعود إلى عالم الأحياء، مضى منها الآن أربع وعشرون ساعة في إثبات سبب الوفاة واستكمال إجراءات الدفن وبقي ثمانية وأربعون ساعة، سأعود بعدها حيّا مُعافى أسعى بينكم كما كنت متغلّبا على الفناء والعدم، سيكون اكتشاف اثر المسحوق حدثا عالميا، سأقبض مئات الملايين وسأتزوج فاطمة ابنة الأكابر وسأعقد المؤتمرات الصحفية وسأفند كل ما كتبته الصحف عن الحادث.
سأكشف حيثيات كلّ شيء يا صاحبي، ما شاهدته إبّان الحادث كان مرعبا رأيت أشلاء بشرية تتطاير، جبالا من النقمة والحزن والرعب، رأيتهم يتطايرون حتى الأفكار والمشاعر لها أشكال وأحجام، شاهدت بأم عيني رأسا مقتطعا عن جسده، كان الصوت المنبعث من الفم حادّا قويا وكانت العينان تصوبان من علوّ بحثا عن الجثة وسط الأشلاء، ثمّ سمعت صوتا شبيها بصوت العويل بعدها اختلط الغبار بالدماء بالبخار الأسود بالدم القاني، كان مشهدا مرعبا.
عندما دوّى الانفجار تصاعد ثدي المرأة متهدّل في الجوّ، صعد الثدي عاليا حتى كاد يختفي ثمّ سقط وبدأ الحليب ينزّ من الحلمة، حليب ناصع البياض فائر.
كان الثدي بعدما سقط كإسفنجة مبلّلة بالماء وصوت رضيع ينبعث من قريب والثدي يزحف صوب الرضيع وعمّت بعد ذلك أصوات متداخلة ورأيت مخلوقات غريبة وأشباحا مخيفة تنقض على الأشلاء البشرية فتلتهمها وتطير بها في الفضاء«.
انقطع الصوت حالما دخلنا إلى المقبرة.
وضع المحمل قرب القبر وظلّ المؤدّب يردّد مع جمع من الرجال سورة »يس« فيما تكفل آخرون بقبر الميّت.
فكرت في إيقاف هذه المهزلة، خفت أن أُتّهم بالجنون وأن أُرْمَى بالكفر والزندقة وفكرت فيما ستقوله جارتي العانس »بلوى« كما يحلو للجميع تسميتها: »هذا الزنديق القديم عاد له غيّه وكفره، يا ويله إنّه من الناكرين للموت والبعث«.
آخر ما سمعت حين هيل التراب على اللحود ضحكة مكتومة وتنهيدة كبيرة.
انفضّ الجميع ورجع الأحياء إلى دنياهم، أقفرت المقبرة تماما وبقيت قرب قبر صديقي الميّت الحي، أغالب حزنا ودهشة لا متناهيين وأملا قد يأتي وقد يتلاشى كسحابة الصيف.
انتظرت صوتا قد يأتي من الحفرة التي يخافها الأحياء وتخيّلت الملك نكير يمسك بتلابيب صاحبي وهو يجادله والمسكين يستقوي بما حفظه من منطق الفلاسفة وجهابذة المعتزلة ومبادئ ماركس حتى أشرفت شمس النهار على المغيب فغادرت المقبرة وفي القلب لوعة ما لها ختام وحيرة قاتلة وتفكير متواصل في من تركته في قلب الظلام الدامس.
يومان بعد دفن العزيز الراحل جلست على قطعة من الآجر قبالة القبر.
كنت أنتظر أوبة الميت ودقات قلبي تتسارع ورنين كلماته التي تلاها عليّ في المنام تدقّ في أذني.
»الساعة الخامسة أنتفضُ وأكسر اللحود، ستجدني أمامك كفكف دموعك ولا تخف ثمّ لا تنْسَ أن تحضر لي ثيابا تليق بعودتي للحياة، سيصدم الجميع لو ظهرت لهم في الكفن الشبيه بجبة الشيخ مسعود«.
اقتربت من القبر، أشعلت عود ثقاب فلمحت بعض الديدان الخارجة من حفرة صغيرة تحت البناء الجديد.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا.
أشجار السرو المحاذية لسور الجبانة تتمايل بفعل الريح والعلم فوق مقام ولينا الصالح يحدث صوتا مفزعا.
تبادر إلى ذهني قول قسّ بن ساعدة الإيادي منذ قرون: »من مات مات ومن فات فقد فات«.
في حدود الرابعة صباحا ارتعدت فرائصي على صوت أنين خافت وفجأة قرّرت أن أوقف المهزلة.
يجب أن أعلم السلطات، ماذا لو تجاوزت الساعة الخامسة ولم ينهض الميّت من قبره.
لكن من يصدقني؟
قعفور مقبرة سيدي بوعرقوب
الثالثة صباحا جويلية 2007
نجيب البركاتي (عضو نقابة كتّاب تونس)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.