عندما يضيق المكان ويتوقف الزمان يشعر الانسان بالحيرة والاختناق والضياع، فتصبح الحياة بلا معنى، بلا رجاء. غير ان خفق القلوب يعيد لنا سحر هذا الوجود لنبحث فيه عن الارتواء، عن الجذور، عن أشياء جميلة لغتها غبار السنين، عن ملاذ تحقق فيه أحلام الحياة وعن حب يرافق عرينا في زمن المحن والشقاء. هذا ما أوحت به اليّ مطالعتي لرواية «مواسم الجفاف» للكاتبة التونسية «سعدية بن سالم» تلك الروائية القادمة على مهل تحاول ان تشدّك بأسلوبها السلس والشيّق الذي يحيط به الغموض والتوتر. فكلمات «بن سالم» كانت ترسم مشاهد الرواية بكل دقة وعمق، بل بإحساس فيّاض رغم الجو البائس والمشاعر المكبوتة. ومما لا شك فيه ان «مواسم الجفاف» كانت الرواية الواقعية واللوحة الحالمة رغم قتامة الألوان فيها. فالجفاف كان يكتسح كل الأماكن، الارض بجلّ مكوّناتها والقلوب الحائرة،بل يطارد الأحلام الجميلة ويغطي كامل مساحة الرواية من أولها الى آخرها. حتى جاءت كلماتها وجملها وفقراتها تنوء وتشتكي وتبكي وتنتحب وتتذمر من قسوة الحاضر. ترسم الرواية مشاهد العراء والجدب، عراء الارض وتعطّشها للماء، كذلك عراء القلوب الواجفة من المشاعر والأحاسيس. تلاحق مواسم الجفاف أبطال الرواية في الزمان وفي المكان لتطل على ما تنوي عليه القلوب من ألم وحسرة، وقد استطاعت «بن سالم» ان تخوض في أعماق شخوصها وفي أعماق المكان الذي تتغذى به حتى في لحظات بؤسه. فهو الذي ولّد في النفس ألما كبيرا، وكان العزاء في اصرار بطلة الرواية، المهندسة الزراعية، «مريم» على تحمّل مسؤولية هذه الارض الذي تهددها الموت ويتربص بها. «مريم» هي البطلة التي تذلل الصعاب وتقاوم من أجل أرض الاجداد والحلم النابع من الأعماق دون كلل، فتقود المشروع الزراعي على خلاف خطيبها «خليل» الذي طال به الانتظار للحصول على وظيفة حكومية فأصبح يفكّر في الرحيل ومن هنا انطلقت الرواية تصوّر صراع البطلة مع الارض مع الذات، مع العائلة، مع الحب الذي أصبح من المحال تحقيقه في هذه الظروف الصعبة. فهل تستطيع «مريم» تحقيق حلمها، واقناع حبيبها بالبقاء؟ في الاثناء تظهر شخصية «ابراهيم» او «عباس» الرجل المسن الذي يحفّه الغموض وتحيط به نقاط استفهام عديدة، خاصة وهو يحاول ان يتقرّب من «مريم» من احتضان الارض وامتلاكها. فمن تكون يا ترى هذه الشخصية الغريبة؟ ألا يكون ابن هذه الارض وقد عاد من أجل الموت فيها ومعانقة نخيلها واستنشاق هوائها والارتواء من مائها؟ هكذا تبدو لنا الرواية ملمّة بالمكان وببواطن أبطالها، بل استطاعت عبر تقنيات الرواية من سرد ووصف ومضات روائية وحوار وأطر زمانية ومكانية متنوعة وان تبني معالم الرواية الهادفة والرامية. فالروائية كانت تؤمن بأن الارض والحب هما وحدهما يمنحان الحياة طعمها ولونها. وسأتوقف هنا حتى أترك لكم لذة اكتشاف أسرار الرواية ومسار أحداثها في أدق جزئياتها...