نحن في طريقنا الى بيروت، وصلت السيارة الى دمشق حسب الموعد المحدد، الثامنة صباحا، أو بالأحرى هما سيارتان، تماطلنا كالعادة في شرب القهوة وفطور الصباح، وتأخر البعض في التدخين الذي أصبح مشكلة، وممنوعا في كل مكان، وهم كاللاجئين أو «الشحادين» دائما أمام الأبواب. وأخيرا ركبنا السيارات، كل مجموعة في سيارة , السيارة مريحة، أنا وعز الدين وليلى وسيرين ابنة عز الدين وبرهام , وريم وأسامة وبحري ومراد وحاتم في السيارة الثانية، الطريق سريعة وعريضة، لا علاقة لها بالطريق التي كنا نسلكها في طفولتي، كانت ضيقة وملتوية، اليوم حفروا في الجبل لتوسيعها، الشيء الوحيد الذي بقي، هو الألم في الآذان من ضغط الارتفاع، وصلنا الموقع الأول للحدود السورية ،عندي مشكلة، فقد أضعت ورقة الخروج التي أخذتها من المطار، دخلت الى الطابور، سألني العسكري الشاب عن الورقة الحمراء، أخبرته آسفة أنني أضعتها، حمل جوازي ودخل به أحد المكاتب ثم ناداني لمقابلة الضابط المسؤول، الذي سألني ثانية عن الورقة الحمراء، أخبرته أنني أضعتها وأنه كان من الممكن أن أذهب الى المطار لاستخراج ورقة ثانية، لكن الأمس كان يوم جمعة وهو العطلة الرسمية، ثم قلت له إنني لم أتأزم كثيرا، فغير ممكن أن أخشى شيئا بسبب ورقة حمراء ضاعت وأنا في بلدي، وكان رد الرد مثل البرق، نادى العسكري وقال له، اطبع لها على الجواز بسرعة، وطلعت أنا قبل الآخرين ،سألت السائق اللبناني، «ما زلتو اصحاب» مع السوريين، أجاب «ما بنقدر نستغنى على بعض « ان شاء الله دائما لا يستغنوا عن بعض، ركبنا السيارة وفتح السائق شريط وائل الكفوري. ما أجمل الطريق بين الشام وبيروت، تذكرني الخلجان بخليج تونس ومنطقة المرسى وقمرت، وصلنا بسرعة الى بيروت، لقد تغيرت كثيرا، فبيروت ككل المدن، يكمن بعدها التاريخي في أبنيتها التي لم تعد، لم يبق لها طابع، العمارات العالية والأبراج بلعت المدينة الصغيرة ،قالت لي الصديقة حنان الحاج علي مديرة مسرح دوار الشمس، بيروت تنهار، يهدموا البيوت الأثرية العريقة ليبنوا مكانها عمارات حديثة، بأي ثمن يمسح التراث والآثار والمقدسات الروحية. صرنا نبحث عن بيت قبال مقبرة حتى لا يبنوا أمامنا أبراجا وعمارات حديثة لا لون فيها ولا طابع. كان العرض نفس اليوم في مسرح «دوار الشمس» الذي يديره حنان الحاج علي وروجيه عساف، استقبال حنان للفرقة كان رائعا، سكنا في فندق راق قريب من المسرح، لكن طبعا التدخين ممنوع. ليلة العرض امتلأ المسرح رغم أنه كان يوم الأربعاء. يعني يوم الغد، هو يوم شغل حضر العرض جواد الأسدي والفنان السوري بشار زرقان , وكتبت عنه الجرائد بأنه نقلة نوعية في المسرح العربي. اللهجة التونسية في لبنان كان لها تأثير أكثر من سوريا، طبعا المسرح لم يكن بنفس المقاييس لمسرح دار الأوبرا، وهنا اكتشفت معنى رجال الخفاء الذين يحاولون بأي طريقة أن يكون العرض ناجحا ولو ضمن متر أو متر ونصف من الخشبة، قام حاتم ومراد بعمل رائع لتوضيب المسرح والاضاءة حسب ما تتطلبه الحكاية، ولم يكن ذلك سهلا ابدا، لا على فريق التوضيب ولا على الممثلين، بهرام وبحري اللذان كان من المفروض أن يخرجا من القبر، اضطرا لضيق المسافة الى أن يزحفا خلف الديكور في الظلمة، لكن لم ينتبه أحد خارج الفريق . بعد العرض دعتنا حنان الى عشاء رائع من الأطعمة اللبنانية اللذيذة، ورغم الساعة المتأخرة والتعب، ذهبنا لنمشي قليلا على الكورنيش، كان لريم أصدقاء من الممثلين الشبان شاركوا في احدى دورات المركز العربي الافريقي في مسرح الحمراء بتونس، رافقونا طوال اقامتنا وكانوا رائعين، على الكورنيش ليلا التقينا ببيروت الرائعة، «ست الدنيا» وعرش الاله هرميس، مدينة المشرعين، دار أفروزينيا، عاصمة الانتداب، وحاضرة العرب الكوسموبولوتية، مدينة كل المخاطر وكل الأديان , بيروت كانت من أصغر المدن الساحلية في المتوسط قبل حقبة السلطان عبد الحميد، الذي قرر تأهيلها لتدخل عصر التحديث، فكان تكبير مرفأ بيروت ليتسع للبواخر الكبيرة، وخاصة تلك التي تحمل المعدات الضرورية لانجاز سكة الحديد لخط الحجاز , كان لبيروت قطاراتها الخاصة، وخط يصلها بالشام، في تلك الفترة أنشئت شركة كهرباء بيروت، واليوم تعاني بيروت من مشاكل كهرباء، أضيئت مدينة بيروت سنة 1874, وتأسست أيضا شركة مياه بيروت، وعملت البلدية على «تبليط» الأرصفة والانارة وتنظيم حركة السير والترومواي وسط بيروت، كذلك بنيت المباني الحكومية ومراكز الشرطة والحدائق التي لم يبق منها أثر اليوم. لم تعد المباني تحكي سيرة مدينة، لكن يبقى البحر وسره، والكورنيش، وجمال الصبايا وتألق الشباب، وتبقى بيروت مدينة العالمين شرق وغرب، نشأة الفكرة القومية، بيروت مدينة أزمان، عصرية ومتجذرة، مدينة الأنا والآخر، مدينة الأدب والشعر والموسيقى، عربية منفتحة، تشدو بصوت فيروز الملائكي « ارجعي يا بيروت بترجع الأيام». تبقى بيروت.. بيروت «ست الدنيا»، تتسع لكل الحب وتفيض عنه ,