الفلاح بريء... ولا دخل له في ارتفاع أسعار الخضر والغلال من وقت الى آخر!.. هذه الجملة لم تعد تحتاج في الحقيقة إلى تأكيدات من «منظمة» الفلاحين أو من رئيسها، فقد أصبحت شبه بديهة وحقيقة ثابتة لدى المستهلك، خصوصا أن الجميع متفق على أن تشعّب مسالك التوزيع، وتلاعب بعض الهباطة، هما أصل ارتباك السوق بالأساس، وهو ما أظهرته مرة أخرى دراسة قامت بها مجموعة من الخبراء التابعين لاتحاد الفلاحين. كما أظهرت الدراسة الميدانية والعملية للسوق حقائق كبيرة حول سوق الخضر والغلال، وحول أسباب الخلل إن هي وُجدت سواء على مستوى الانتاج أو مستوى الترويج. وفي بداية حديثه مع «الشروق» أكد السيد عبد الباقي باشا أن تونس أصبحت اليوم هيكليا مكتفية في مستوى انتاجها الفلاحي في كل المواد باستثناء بعضها مثل الحبوب والأعلاف. وحتى إن ظهرت الحاجة للإستيراد وهو ما تم في السنة الفارطة فأنا أعتبر ذلك أمرا نتج عن ظروف استثنائية. أي، مثلا كثرة الأمطار التي أثرت السنة الفارطة على مادتي البطاطا والبصل. هذا أمر لم يفهمه العديد من الناس، إذ هو يحمل مفارقة، فمن جهة نحن في سنة طيبة «مناخيا» ولكننا نعيش نقصا في بعض المواد. والجواب أنه كانت السنة كذلك، لكن بالنسبة للحبوب، ولكن كثرة الأمطار في الأرض (والبطاطا تزرع في الأرض كما هو معلوم) تؤثر جديا على هذه المادة. وقد تعرضنا خلال سنتين لفيضانات من الماء من المناطق السفلى قرب مجردة، وعندما تغمر المياه هذه الأراضي يتأثر الانتاج بالضرورة، لكن المواطن لا يشعر بهذه الأشياء وبمدى تأثيرها على الانتاج. والمواطن قد لا يفهم حاجة الفلاحة إلى اعتدال المناخ أيضا كضرورة لهذا القطاع وسأضرب لك مثلا يخص هذه السنة ويخص تحديدا انتاجنا من الحبوب. كانت كل الدلائل تشير الى أن الموسم سيكون خارقا للعادة، لكن الأمطار الأخيرة مضرة، بل تضر النوعية والكمية معا. والخلاصة أنه يجب علينا أن نفهم بأن القطاع الفلاحي خلافا للقطاع الصناعي، هو قطاع حساس جدا، ولندرك جميعا أن اضطراب المناخ ولو لمدة أسبوع يؤثر سلبا على الانتاج، بل قد يؤدي بصابة سنة كاملة. وكمثال نحن ننتج في البطاطا حوالي 20 ألف طن، لكن نضيف طنا واحدا في الهكتار نصل الى فائض ب20 ألف طن، والعكس صحيح. وإذن لا بد من آليات تشتغل لنحاول التأقلم مع تقلبات المناخ. والمناخ قضية كل مواطن، وليس الفلاح وحده، المناخ يؤثر عليه إن سلبا أو ايجابا، فلا بد لنا من سلوكيات تتماشى مع معطى طبيعي موجود، أقصد سلوكيات استهلاكية. فما المانع أنه كلما وقع نقص في مادة يقع تعويضها بمادة أخرى؟ ونحن ننتج في تونس 51 نوعية من الخضر (قلم) لكننا لا نحكي إلا عن البطاطا والبصل وأحيانا حتى «المعدنوس». نحن لا نستهلك ال «قْلم» التي ننتجها كلها، نحن نستهلك بعضها فقط، فلا بد أن نأخذ في الاعتبار كل هذه الحقائق، والتونسي كما تعرف «مدلّل» توفر له اليوم السيارة الشعبية أو الكمبيوتر المنزلي، وغيرها، وهذه حقوق، لكن على الواحد أن يكون «عاقلا» هل ننسى مثلا، أننا في مستوى انتاج الحليب كنا نستورد «الغبرة» واننا اليوم وصلنا الى تصديره... اذا جاءت ظروف خارج نطاق الجميع، ومنها سنوات جفاف متتالية ألن يؤثر ذلك على الانتاج؟ وأين هي الكارثة اذا ما تراجع الانتاج ب2 مثلا؟ اذ يعتبر حسب كل المقاييس أن من يصل الى 95 من الانتاج يكون حقق اكتفاءه الذاتي فيه. الأمر الثاني وهذا رأي خاص، أقول هل أن النقص الذي عندنا هو نقص في الحاجيات أو هو صادر عن «دلال» اليوم تقول منظمة الأغذية والزراعة أن 2700 وحدة حرارية هي الامدادات الغذائية على المستوى العالمي، في تونس تصل هذه الامتدادات الى 3600، وهذا معناه أننا نستهلك مثل الياباني والكندي وغيرهما، أي في التخمة وإذا وحسب هذه المعطيات قد يكون لدينا نقص على مستوى التخمة وليس على الحاجيات الأساسية. وأريد من المواطن أن يفهمني كمنتج، وأقول له (رغم ذلك كله) أنه من حقك أن تشتكي ولكن أنا أيضا اشتكي مرتين، كمستهلك مثلك تماما وكمنتج أيضا لأنني أعيش ضغطا من ذلك الشيء الذي تشتكي منه أنت، وعندما أرى بضاعتي تباع لك بضعف ما بعتها به وأكثر من الضغط فإن قلقي يتضاعف مرات، أحس وقتها بضيم. عندما نأتي الى الدولة نجدها هي أيضا تشتكي لأن لها هاجس لتوفير كل شيء وجميع المطلوب وبأسعار معقولة، وهي في ذلك محقة خصوصا أنها توفر كل التشجيعات والنتيجة أن كل الأطراف تشتكي وكلها على حق. * أين الاشكال؟ الاشكال في مسالك التوزيع غير المنظمة، نحن لدينا احتكار موجود في السوق بشكل رهيب، نتحدث كثيرا عن التجارة الموازية وننسى أنه بالنسبة للمنتوجات الفلاحية %10 تمر عبر سوق الجملة ببئر القصعة ومن 10 الى 15 عبر الأسواق الأخرى أي من 20 الى %25 تمر عبر الأسواق التى يقال عنها أنها منظمة و%75 من الانتاج يمر عبر المسالك الموازية التي فيها جميع الممارسات الضارة بالجميع. * إذن توجد لدينا «مافيا» في هذا المجال؟ ليس في ذلك نقاش والسبب أن تشعب المسالك وكثرة الأيادي المتدخلة، يزيد (كلما ازدادت تلك الأيادي) في ارتفاع الأسعار. عندما تجد بضاعة ثمنها الحقيقي 500 مليم وتباع للمستهلك بدينار أو أكثر تتألم وتقوم أن هذا حرام. وأن مجهود الفلاح سيذهب سدى، ولن ينتفع منه المستهلك، وهذا ما أريد من الكل فهمه بما في ذلك مصالح وزارة التجارة. فالحلول التي يقع اتخاذها هي حسب رأيي ليست ملائمة! اذ كل مرة نسرع فيها لاتخاد الحلول، يكون ذلك على حساب جهات الانتاج الشيء الذي يهرب المنتج الى السوق الموازية، وهذا كلها اشكالات لا بد من معالجتها ببرودة دم، بحوار مع كل الأطراف وبنية «صافية». لقد قمنا بالعديد من الندوات حول مسالك التوزيع، هنا في دار الاتحاد (اتحاد الفلاحين) وتبناها الاتحاد. وعندما نذهب الى التطبيق، لا يتم ذلك. قد تقول لماذا؟ لأن الموضوع متشعب ومعقد. * ولماذا هو كذلك؟ لأن هذا الأمر مثل الغول، جاثم على الجميع، وهو صعب جدا يستدعي الكثير من برودة الدم وخطوات ليس فيها تراجعا يجب معالجة الأشياء كما هي، لا بمعالجة خاطئة، لا يجب أن نخلط في هذا المجال بين الحال الضاغط والحيني والحل الصحيح الدائم الذي لا يستدعي الوقت والتضحية من كل الأطراف. * هل يوجد سعي في هذا الاتجاه؟ نعم وأريد أن أحيي السيد رئيس الدولة الذي يطالب بالحلول، بدليل ايذانه بالاستشارة الوطنية حول التجارة وفيها جزء أي الاستشارة يتعلق بالفلاحة. والاستشارات الاقليمية التي تمت الى الآن كان نصفها أو أكثر يهم المنتوجات الفلاحية. هذا ركن مهم جدا. ونأمل أن تكون النتائج في مستوى هذا العمل الكبير. وفي مستوى المجلس الاقتصادي والاجتماعي نفس هذا الموضوع وقع التعهد به من طرف المجلس وهو الآن يدرسه ليقدم في شأنه تقريرا لسيادة رئيس الجمهورية. واعتقاد أن الحوار سيهدينا الى عديد الحلول التي تأخذ طريقها للتنفيذ، ذلك أنه ليست الأفكار هي التي تنقصنا لكن تنفيذها. صحيح هناك عدة قوانين لتنظيم القطاع التجاري لكن تطبيقها الفعلي لم يتم بعد، تنظيم السوق ليس أمرا هينا. وهنا أؤكد أيضا على دوركم كإعلاميين حتى لا يقع ظلم أي طرف وحتى يطلع المواطن على الحقائق كلها وكما هي. إن الفلاح سيكون أول من يفرح عندما يجد المستهلك مغتبطا وراضيا عن حالة السوق، وعندما يجد أن مجهوده لم يذهب بلا طائل. فهو يعمل من أجل ذلك المستهلك أولا وآخرا، عندما تقول لي زد في الانتاجية لمن أزيدها؟ للحريف طبعا الذي أريده أن يقبل على البضاعة وأن يكون مكتفيا. وإذا ما صعدت الأسعار هو لن يقدم على الشراء فإن من صالحي كمنتج أن تكون علاقتي به جيدة لكن علينا أن نراعي كلفة الانتاج أيضا ففي هذا المجال يعاني الفلاح من عدة مشاكل كالمديونية مثلا، لا يجب أن ننسى أيضا صغار الفلاحين، وإذن فالقضية عميقة جدا ولا بد من وقفة حازمة لمعالجتها. وسأعطيك مثالا بسيطا منذ مدة بلغ سعر «القارص» حوالي دينارين. فإذا ما سعرناه كم سيصبح في مستوى السعر الجملي Gros؟ حوالي 1800 تقريبا في حين أن الفلاح يبيعه ب1200 مليم أو 1400، هل تأخذ مصالح وزارة التجارة بسعر كهذا؟ اتصلنا فطلبوا أن يكون سعر البيع 800 مليم. قلنا ب850 نتعاقد معكم و»خوذوه» أي الانتاج كله وكان الرد أن لا مصالح الوزارة مستعدة أن تشتري في هذه الفترة ويمكن في الفترات الأخرى الأمر غير ملزم، فهل هذا معقول. والذي حدث أن هذا اليوم وصل سعر القارص الى 600 مليم فما هو ذنب الفلاح ولماذا يدفع وحده فاتورة نقص الانتاج أو زيادته؟ وهذه كلها اشكالات لا تحتاج الا الى توضيح آليات التعديل ولا يكون التعديل إلا حسب مصلحة الجميع. هذا هو الاشكال!