قرأتها لأول مرة فوجدتها مستعصية عن القراءة متمردة جامحة... لا تستطيع التحكم بها... صعبة... واضحة جريئة الى حد القسوة... وكأنها كتبت بماء من نار تعرّي الحقائق وتجرّدها من أقنعة تفنن الآخر في وضعها... وجدت رواية حسين الواد أكبر من أن يستوعبها ذهني لا لأنها صعبة بل لأنها صادمة... تغوص في تفاصيل تاريخ مجتمع بأكمله بل ما شهده من تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية كانت في قليل من الاحيان باعثا على السعادة وفي أغلبها محزنة كاسرة يقول في ص 250 «فخيمت على المدينة رائحة حادة ما كاد الناس يشمونها حتى كره كل نفسه وتمنى لو لم يكن من أبناء هذا الزمان». زمان فقدت فيه المدينة روائح اجتهد أهلها في الاحتفاظ بها لكنها انتزعت منهم غصبا تارة بقوة السلاح وطورا لدواع سياسية من أجل نشر فرحة الحياة ومواكبة العصر... زالت الروائح واختلط على الناس كل شيء... الى أن أضحى لا شيء مجرد دمى تتحرك وفق مشيئة القدر... وقدر المدينة أن لا تكون لها رائحة... تعبر عنها فتفكك المجتمع وبليت الهوية وتمزقت فشرع المسؤولون في ترقيعها على عجل... دون انتظام أو هدف أو مسؤولية... فأضحت خليطا غير متجانس تقبله أهل المدينة دون إدراك أو فهم وانجروا وراءه مجبرين. أخذتني الرواية وشدتني ولفهمها كان عليّ أن أعيشها فحملتها معي أين ما ذهبت وقرأتها أكثر من مرة بانتظام أو بغيره فوجدتها مثلما اختار لها حسين الواد أن تكون متفردة هناك دائما أحداث وحكاية... كل فصل يعبق بروائحه التي هي روائح مدينتنا إن صح لي أن فهمت الرواية. في كل فصل يرسم المؤلف مدينته خلال مرحلة من مراحل التغيير وإعادة البناء التي شهدتها عبر سنوات مختلفة بناء وإن حقق أشياء فإنه فرض على المجتمع تحولات لم يعد أو لم يكن مستعدا للتعامل معها... تحولات بقدر ما منحته سلبته روائح أحبها وتعود عليها واستمتع بها... فأضحى ضائعا في خضم هذا الكم من الافكار والقيم... أنماط العيش الموردة من الخارج... أساليب وضعها من لا يعرف المدينة وحاجياتها... من لا يفقه تفاصيلها... فحتى الحرية والانفتاح يتحولان الى سلاح هادم إن لم يقع إعداد الناس لتقبلهما والانتفاع بهما فتختلط الروائح، روائح الترغيب والترهيب والاعتداء والافتكاك والانتزاع والوشاية و«الصبّان» والدم المسفوح. ويكثر استغلال المناصب والثروات واستغلال الشعارات وحتى استغلال الدين والوطن ويصبح كل فرد من المجتمع يغني على ليلاه فتعم الفوضى والفساد وتفوح الروائح القاتلة للطموح والاحلام... «روائح المدينة» رحلة واضحة... محايدة بلا مجاملات لفترات مختلفة من التاريخ ووصف لأحداث أثرت في المجتمع التونسي بعمق فكان للبعض القدرة على تقبلها والتعامل معها فيما عجز البعض عن مجاراة هذا الكم من التغيرات ومسايرة نسقها السريع... قرأت الرواية فشدّتني وأعجبتني شخصية «المؤرخ الحزين» هذا الذي يستدل به الكاتب ويستعين به في وصف العديد من الاحداث التي شهدتها المدينة رغم أني لم أعرف لمَ اختار حسين الواد نعته «بالحزين»؟ هل وهو «حزين» لانتمائه للمدينة واطلاعه ودرايته بكل ما عاشته وعرفته من تغييرات وأزمات فكان حزنه رد فعل طبيعيا أو بالاحرى كان شعورا طبيعيا يتملك كل شخص يحب شيئا ويتعلق به. أم هو «مؤرخ حزين» لدرايته بالتاريخ وعدم قدرته على تزييفه أو تغييره؟ أعجبني هذا «المؤرخ الحزين» لإلمامه بتاريخ المدينة ومعايشته لكل مراحل التغيير ولتفاصيل جميع الاحداث فكان حضوره في الرواية أساسيا لبناء الاحداث واكتمالها فكأن بالنص من تأليف حسين الواد والمؤرخ الحزين كل منهما يكمل الآخر فكلاهما عايش فترات مختلفة أدى تراكمها وتتابعها الى ما آلت اليه المدينة ف«المؤرخ الحزين» سابقا والراوي اليوم كتبا ما عرفاه وعاشاه وما نعرفه نحن أو ما نتجاهله أو نجهل كتابته أو لا نتقنها ولكنه رغم كل هذا يظل روائح تعج بها مدينتنا... فنتنفسها.