لم يُطلق الإسرائيليّون النّار صدفة على سفينة «مرمرة». فهي السفينة التركيّة الأكبر في «أسطول الحريّة». ومن الطبيعيّ أن لا يُستَهْدَفَ على متنها أيُّ «متضامن» من ذوي الجنسيّات الغربيّة. لقد انتقوا ضحاياهم بكلّ رويّة واختاروا لتوجيه رسالتهم أن يهدروا ما توهّموا أنّه الدم الأرخص... وهل أرخص في نظرهم من دم العربيّ أو المسلم؟ بقي أنّهم لم يحسبوها جيّدًا هذه المرّة... فقد يكون الأمر مختلفًا مع الدم التركيّ. وقد لا تفيدهم التجارب السابقة (وآخرها إزهاق أكثر من ألف وأربعمائة روح فلسطينيّة) حين رسخ في اعتقادهم أنّها دماءٌ لا شعوبَ لها ولا أنظمة تحميها أو تُطالب بها، وأنّهم من ثَمَّ في منجاةٍ من أيّ عقاب أو حساب؟ وعلى الرغم من بشاعة الجريمة الإسرائيليّة، فإنّ في بسالة المتضامنين وفي تفانيهم وفي الأثر الذي خلّفه الدم المُراق ما يدفع إلى التفاؤل. وذلك في نظري لثلاثة أسباب: السبب الأوّل: فشلُ إسرائيل في كلّ ما قامت به على الرغم من تباهيها بالعكس. فإذا كان هدفها من وراء جريمتها البشعة ضدّ «أسطول الحريّة» أن تمنع كسر الحصار المضروب على غزّة، بدعوى تحصين الحدود وإضعاف المُقاومة وتحرير «شاليط»، فقد فشلت في ذلك فشلاً ذريعًا... بل ها هي تخسر حليفًا ضروريًّا لأمنها وتمنح المُقاوِمة زخمًا دوليًّا وتجعل هذا الحصار «مرئيًّا» ومرفوضًا أكثر من أيّ وقت مضى، وموضوع نقاش حتى في أجهزة الإعلام الغربيّة التي احترفت «العمى المهنيّ والأخلاقيّ» كلّما تعلّق الأمر بإسرائيل. السبب الثاني: نجاح المنظّمات الإنسانيّة في تحقيق هدفها الضمنيّ من وراء الدعوة إلى تحرير غزّة، وهو كسر الصورة المضلّلة التي تروّجها إسرائيل عن نفسها، بوصفها في حالة دفاع عن النفس في كلّ ما تقوم به، بدايةً من الاحتلال وصولاً إلى الحصار والحبس والتشريد والإبادة... فها هي تقوم بعمليّة قرصنة موصوفة، في المياه الدوليّة، وتقتل مدنيّين بدم بارد على مرأى ومسمع. وها هي تمارس بصفاقة لا شكّ فيها كلّ الممارسات التي تُنسَبُ إلى «الدُّوَل المارقة» وإلى «العصابات الإرهابيّة»، وها هي تبدو أكثر طيشًا وعدم اتّزان في الواقع المنظور ممّا تتّهم به إيران مثلاً، افتراضيًّا واستباقيًّا. السبب الثالث: اختراق مؤسّسات المجتمع المدنيّ جدار الصمت الرسميّ، كي لا نتحدّث عن التواطؤ العربيّ والغربيّ، ونجاحها في تحرير عدد كبير من الضمائر الغربيّة من عقدة الإثم والتأثيم التي تحوّلت إلى صناعة إسرائيليّة بامتياز... وهو أمر بالغُ الأهميّة... فإنهاءُ المأساة الفلسطينيّة يتطلّب استمرار روح المقاومة في الداخل من جهة، وتغيير مزاج دوائر القرار في العواصم الغربيّة من جهة أخرى... وهذه العواصم لن تضع حدًّا لمأساة الفلسطينيّين إلاّ إذا رأت أن مصلحتها تقتضي ذلك... وهذه المصلحة لا يمكن أن تُهدَّدَ عربيًّا بعد أن انقطع الرجاء في أغلب النظام الرسميّ العربيّ... لذلك أصبح المُعوَّل على الضمائر الغربيّة الحيّة التي تزايد عددها، وأخذ صوتها يعلو، وقد تشكّل ضغطًا داخليًّا كفيلاً بجعل مساندة إسرائيل تتحوّل من «ورقة انتخابيّة» إلى «عبءٍ انتخابيّ». إلاّ أنّ كلّ هذا يظلّ مشروطًا بالحرص على أن لا يذهب الدم المراق هدرًا، أي بحسن إدارة «ما بعدَ» الجريمة الإسرائيليّة...فإسرائيل تعوّل كثيرًا على قِصَر نَفَس المُعارضين وطول نَفَسِ المُوالين والمتواطئين... وهو ما عبّر عنه قبل يومين السفير الإسرائيليّ في حلقة تلفزيونيّة في قناة فرنسيّة، حضرها دوفيلبان وآخرون، وأشار المشاركون فيها إلى «عزلة» الدولة الصهيونيّة بعد عمليّتها الأخيرة...فما كان من «سعادة» السفير إلاّ أن قال بنبرة لا تخلو من سخرية: «أخشى أن يكون البعض هنا مصابًا بقِصَر الذاكرة. فقد مرّت إسرائيل بمحطّات مثل هذه، وقيل إنّها في أزمة وإنّها معزولة... ثمّ لم تلبث أن استعادت مكانتها وحلفاءها وأصدقاءها... » ملاحظةٌ صحيحة...ولن يمنعها من أن تصحّ من جديد، إلاّ عدم الاكتفاء بالتنديد والوعيد... والإسراع بتوجيه أسطول ثانٍ فورًا وقبل أن يجفّ دم الأبرياء. على أن يتكوّن أفراده من شخصيّات غربيّة أكثر تنوّعًا، وأن ينطلق من عدّة مدن من جانبي المتوسّط، وأن نشارك فيه جميعًا نشطاء سياسيّين ونقابيّين ومدنيّين ومثقّفين وفنّانين... وأن يدعى إليه وجوه الإعلام الغربيّ من ذوي الضمائر الحيّة والأخلاق المهنيّة، وهم موجودون على الرغم من هيمنة اللوبيات المتصهينة... هل يتمّ ذلك؟