«هل نسمي أدب المرأة بأدب نسائي أم أدبا مؤنثا؟ فالمرأة العربية تكتب أدبا قد يكون جيدا متقدما وقد يكون متخلفا ولكن هذا لا يناقش، لأن حركة النقد في بلادنا العربية لا تزال قاصرة وبعيدة عن فهم وتقسيم الادب الجيد الذي تكتبه المرأة»(1). قد يصعب مشاركة المؤلف كتاباته من القراءة الأولى. ولهذا وجب ان تكون هناك قراءة ثانية وثالثة، حلا للاشكاليات التي قد تواجهنا في فهم ما يبغيه المؤلف من نتاجه. خاصة اذا كان الكتاب يعالج قضايا انسانية بحتة. تتعلق بالمصير في ظل صور متعددة مركزة أشبه ما تكون في حقيقتها كشفا لأسرارنا. فنجد أنفسنا منغمسين ومشاركين في تجربة المؤلف التي تتراءى لنا مثل نبع ماء صغير نتتبع تدفقه بهدوء وبطء، فنراه يشقّ الارض ويفيض ليتحول الى نهر جار، ينقلنا عبر حلم يقظة نعيشه لحظة القراءة، الى عالم واسع مليء بمتاهات ومشاريع وحقائق فنتمنى أن لا ينتهي الكتاب. في مجموعتها البكر (الحياة على حافة الدنيا) الصادرة عن دار المعارف للطباعة والنشر سوسةتونس. تضعنا القاطة رشيدة الشارني امام عتبة دلالية يمكن الانطلاق منها الى عالمها القصصي المتفرد والمكون من خمس عشرة قصة. وتكمن هذه العتبة في تحديد نقطة البداية «وهي اختيارها ضربا من الكتابة فيها مغامرة ورحلة الى قيعان النفس البشرية، تنطلق فيها من ذاتها لتتجاوزها الى ضمير المرأة عامة»(2) وهذه ميزة القاص المتمرس. فقد استطاعت رشيدة وبالتقاطاتها الدقيقة للواقع اليومي ان تلج داخل نفوسنا وتحرك مشاعرنا لترغمنا علىالمشاركة الفعلية، فنرى أنفسنا نتألم أن صادفنا مشهد مؤلم، ونفرح أن غمرت السعادة أحد الشخوص، وقد نذوق المرارة ولوعة الترقب، ننصت لهمس أرواح الكلمات وكأننا أمام طقس مقدس. حياة مليئة بالالم والمصاعب، نقلتها الينا رشيدة أو نقلتنا اليها. فترانا نودع مسراتنا وأحزاننا وبطواعية لحكايات المرأة / البطلة، نتعاطف، ننهار، نبكي، في أجواء ومعاناة مكلّلة برؤى فلسفية اجتماعية، هي استكمال لقاموس المرأة العربية وما تعانيه يوميا من سطوة الرجل، «أراهن على أن كتابات المرأة ستلتقي حتما، مهما اختلفت مساراتها في محور واحد وهو معاناة المرأة المثقفة في مجتمع رجولي مثقف»(3). وقد نجحت القاصة في إيصال رؤيتها كاملة على الرغم من أن هذا هو كتابها الاول، الذي يعتبر لاي كاتب أشبه بالسيرة الذاتية، يستطيع توظيفها بالشكل الذي يريد وحسب أسلوبه في الطرح، من خلال التدرج في المستوى الحكائي لرؤيته، ويمكن القول بشأن المحاولة الاولى إنها تثبيت تكرار ذاتي لتجربة فنية قد تستمر أو لا تستمر. فالولادة الاولى دائما عسيرة ويرافقها الكثير من الآلام، لكنها تريد ان تروي كل شيء، وأن تثير الاهتمام، كأنما ليس هناك متسع لها في مجاميع مقبلة، لا أقول... يجب تطبيق نظرية جبل الجليد للروائي ارنست همنغوي حرفيا، حين شبّه القصة القصيرة بجبل جليد عائم وسط البحر، لا يظهر منه سوى قمته، حيث يختفي أكثر من ثلثيه تحت الماء، بل من المستحسن على القاص ان يستفيد بصورة ما من الاختصار والتكثيف والصقل، مما يزيد من عنصري القوة والبناء في المتن الحكائي وكذلك إبراز سمات خاصة للاسلوب. وإن من الأهمية تجنب لعب دور الكاتب العليم الذي يتحدث بلسان بعض الشخصيات وخاصة الرئيسة. فالمرأة عند رشيدة تصبح حمّالة لأفكار الكاتبة، فنحس بالتعاطف والدفاع والتفكير... وكأننا امام محامية او داعية حقوقية من أجل نصرة المرأة بشكل عام وإبراز دورها في المجتمع، والمطالبة بحقوقها، فجاءت القصص أنثوية اجمالا، فنرى «امرأة واحدة تتبادل الحضور في كل القصص. امرأة كنبات بري... يختزن التجربة» (4). وهي بهذا تولي اهتماما كبيرا وربما مبالغا فيه بنساء القصص «واذا كانت أغلب شخصيات رشيدة مثقفة تتكلم بعربية فصيحة فان الشخصيات الاخرى الامية تتكلم بدورها لغة فصيحة أو قريبة من الفصحى» (5). انحياز عاطفي وفني من خلال رسم الشخصية وطريقة تفكيرها وتحركاتها داخل اطار القص، حتى لو كانت هذه الشخصية ثانوية ولا تظهر الا في مقطع قصير، مثل الممرضة في قصة (الفرن) التي شاركتها الحزن حين جعلها تتألم وتندب حظها لان ادارة معمل الخياطة طلبت منها ان تقوم بالاضافة الى مهنتها كممرضة بعملية التفتيش في نهاية العمل الرسمي. وكذلك في قصة (أ للجنون كل هذه الحكايات) فاللغة المستخدمة شعت حرارة وتدفقا انسانيا كبيرا اغرق القصة بشحنة من العاطفة والمداراة غطت الشخصيتين الأنثويتين (عزة المهبولة) و (الطفلة جليلة) وأضفت مسحة من الحزن عليهما. أما الشخصيات الرئيسة فكان لها حصة الاسد، وكما أشرت في المقدمة الى سعي القاصة ابراز دور المرأة والمضي في مشروعها على مدى صفحات كتابها، في نقل ما خفي من عالم المرأة، وما غمط من حقها في مجتمع مليء بالافكار الرجعية الهدامة، فهناك من يتعامل مع المرأة وكأنها آلة تنفذ ما يعطى اليها من أوامر، دون الشعور بأن هذه (الآلة) هي بشر ولها أحاسيس ومشاعر وحقوق وعمق في الحياة، ورؤية غنية لا يستغنى عنها في المعادل الحياتي. فنقرأ في قصة (الفرن): «في ذلك الصباح الصيفي أصرت ألاّ تعود قبل ان تجد لها عملا». نلاحظ ان المرأة (الفرن) أسعد حظا وأكثر جرأة وقدرة على الانجاز، حين نقارنها بالمعلمة في قصة (على حدود الفرح) بالرغم من زواجها من رجل مثقف وحصولها على وظيفة، فهي في ألم مستديم وحيرة تطاردها بين استحالة ولادة طفل وبين العمل وبين ارضاء زوجها وتهيئة كل طلباته، فنقرأ: «تظل الحيرة تطاردني. أشعر وكأني أتفتت بين السندان والمطرقة ولا أجيد غير الاستسلام لخفايا الساعات القادمة»، «صرت أتنفس الألم وفي رأسي كم لا ينضب من الحزن، أني كمن تعيش على حدود الفرح». وفي قصة (طيور داخل الغرفة) نقرأ فكرة التخلي عن دراسة الحقوق والبحث عن العمل مضيّفة في شركة طيران ثم التخلي عن العمل «فكرت في التخلي عن الاختبار والخروج من هذا المكان الذي بدأت أجواؤه تضيق عليّ الخناق ولكن الى أين امضي؟». وهنا تأتي القاصة وبحزم تنقذ البطلة من مأزقها، حيث تقوم بمساندتها وتشجيعها على مواصلة الحلم وتحقيق الرغبة في الوصول الى الحرية المبتغاة فنقرأ: «إحدى رغباتي هي ان أطير في السماء الرحبة وأرى الارض من فوق». أما في قصة (لظى الحروف) فنعيش مع امرأة مريضة بالقلب تحاول جاهدة ان توفق بين عملها وتربية طفلها «زملاؤها في الشركة يتغربون حين يعلمون انها تغادر فراشها قبل الخامسة صباحا بعد ان يمتص طفلها كل ما بها من حليب» والقصة تسرد معاناة المرأة من سطوة الزوج الذي لا يفكر الا بنفسه وبقصائده وأصدقائه. «لا تجد بدا من الالحاح، فقد عوّدت نفسها على مزاجه ولم تعد تطمع في أية مساعدة منه» ويستمر المونولوج بمستوى فكري واحد، كما في القصص الاخرى، غايته إظهار قدره التحمل لدى الزوجة الى أن تنطفئ حياتها بعد صراع اتسعت مساحته «أموت وأنا أضحك من ذلك الزمن البريء أيام كنت تقرأ لي قصائدك فأبكي لعذاباتك، لقد قتلتني حروفك». وفي (الحياة على حافة الدنيا) حيث سطوة الأب الذي فضّل الشياه على ابنائه وزوجته، نلاحظ فصاحة لسان الطفلة بنت الريف التي لم تتلق تعليما، ولم تكد تتجاوز العشر سنوات، نرى تفكيرها العميق ووعيها بكل ما يحيط بها بعقلية المدرك لادق تفاصيل الحياة، يوحي بثقافة عميقة: «هل هذا الرجل هو حقا أبي؟ هل يمكن ان أولد من صلب انسان مات ضميره؟ أي أعذار يمكن ان أجدها له وأنقذ صورته من التشوه؟» والتدخل واضح من قبل القاصة في بناء الشخصية والكلام نيابة عنها، وهي بهذا تُلبس شخصياتها أزياء حسب بيئتهم وتنسب اليهم أسماء وتقدم لهم اعمارا ثابتة، لكنها تنسى ان تحدد درجة وعيهم بما يناسب مستواهم الفكري والعمري والبيئي. وفي (جنازة نسائية) يوحي لنا العنوان بالمأساة الموضوعة المطروحة، فلم تترك لنا رشيدة ولو نافذة واحدة للاضاءة او لتنفس هواء قد يترك نهاية مفتوحة للنص. فالقصة محاصرة منذ سطورها الاولى كأنها حلم الوسواس يصعب تحقيقه، حيث النساء الثلاث الحزينات والوحيدات وسط حقل الزرع الذي لا ينبت فيه غير الألم والقهر وحرق الاعصاب، فالحوار لدى رشيدة «يكتسب صفة البوح المأساوي، حيث ينبع من الرغبة المحبطة»(6). للقاصة الراوي الشخصيات الحياة المحيطة المليئة بالبؤس والخوف والفقر « استعدي للذهاب معي الى سوق الاربعاء أريد بيع هذه البطانية وبعض الدجاج لكن ذلك لا يوفر لنا مالا كثيرا». القصة تعتمد على جدلية الحضور الغياب، المتمثل بشفاء الطفل (ابراهيم) رجل العائلة الوحيد. أو عودة الابن الزوج المحارب من الشام. الذي رفض بداية عبر ردّة الفعل الذهاب للحرب «فرنسا ليست وطني ولن أدافع عن قضايا ظالمة». لكن الأب في ذلك الوقت والميت حاليا وخوفا على ابنه من الاعدام قال «أرجوك يا ولدي لا فائدة من المقاومة، أنا لا أتحمل رؤية دمائك تهدر من قبل هؤلاء أمامي عيني». وتنتهي القصة مثلما ابتدأت ببكاء وألم وأعصاب محترقة «في الصباح كنا ثلاث نساء ندفن طفلا ونتطلع الى عودة رجل من حرب الشام». وفي قصة (يوم في دورة الزمن) نقرأ الأسئلة ذاتها واستمرارية البحث عن أجوبة لها، وتأتي نهاية القصة معلقة، دون الوصول الى حل لاشكالية الفتاة القروية المثقفة، التي أضاعت أحلى سنين عمرها مسجونة بين عملها في المستوصف وجدران غرفتها. والسبب هو سطوة الرجل الاب السلطة الاجتماعية العليا العقدة لدى رشيدة «مهما كان شأنك فأنك لن تكبري أمامي، اسمعي! هذا البيت ليس فندقا تغادرينه الى أين تشائين وتأتين متى تشائين فاما ان تعقلي والا سأسحقك كحشرة»، لم توضح لنا القاصة طبيعة حياة الاسرة، هل هي مفككة ام متكاملة؟ وأين دور الأم؟ مقابل دور الأب المتجبر. صراع مستمر واستلاب ومصادرة لكينونة والتشبث بأي شيء من أجل تحقيق الوجود «أحسست بصدإ السنين يسقط عني وبروعة وجودي في الحياة أيكون الوجود رائعا الى هذا الحد وأنا لا أدري؟». أما في (امرأة وحيدة في مقهى مكتظ) فتبدأ القصة من سطورها الاولى بمواجهة ورفض، ثم افصاح عن رغبة ذاتية لاثبات الوجود والاقناع بامتلاك القدرة على الخوض في وحل المجتمع! والخروج بتجربة جديدة مضافة تزيد من امكانية التحصن ضد (سلطة الرجل) وتسيّده الموقف. «اسمعي لا تكوني عنيدة، أنت لا تحتاجين الى كل هذه الأساليب معي». النغمة نفسها تتكرر بطريقة توحي الى الاشمئزاز من (الذكر) وتدلل على أن الأزمة الملتفة على محور قصص المجموعة مازالت هي ذاتها تدور في فلك عالم متشابك وغامض وليس من السهولة حلّها، عبر تكرار المخاوف نفسها التي تلف كيان المرأة. «فكرت بتغيير المكان والخروج» أن أول ما لاح في أفق البطلة هي فكرة الهروب، كأنما هناك استعداد مسبق لذلك، بعكس ما نراه من الرجل واندفاعه المتزايد في خوض المعركة، بطريقة تنم عن كياسة في الأسلوب وإشعار المقابل المستمع، بانقاذ الموقف والتصرف بأدب رجولي فيه من النخوة والشجاعة الشيء الكثير «أنت في حاجة الى حماية من هذه الذئاب التي تفترسك بنظراتها»، ولغرض الخروج من حصار رجل المقهى نرى أن القاصة المنقذة قد عجلت في وضع الحد النهائي للحدث. ووقفت مع فتاتها مشاركة اياها محنتها، وبدلا من إعطاء مساحة واسعة لهذه الاشكالية الاجتماعية واكتشاف دفاعات (الأنثى) بطريقة تحاكي وضعها الاجتماعي في ضوء تجربة محرجة، عمدت القاصة الى الخروج من المأزق بطريقة تقليدية حجمت من ثقافة المرأة طرق تعاملها مع مثل هذه المواقف «الكلام انحبس في صدرها ولم تشعر الا بيدها وهي تتناول الفنجان الذي أمامها وترمي بما فيه من قهوة على عينيه الثملتين»، ثم تنفّذ فكرة الهروب «وغادرت المكان مخلفة دهشة عميقة في أرجائه». أن رشيدة لم تترك للشخصية حريتها في انسيابية الحدث، ففرض الوصايا بدا واضحا في أكثر من مقطع مما وسم القصة بالمباشرة. الخاتمة من الملاحظ ان القاصة انتهجت طريق الرصد، للعلاقات الاجتماعية المتوترة أو المشوهة بين الرجل والمرأة. بحكم القضايا المطروحة، عبر نماذج شعبية هي الاقرب الى ذهن القاصة. اذ استطاعت ان تتكلم عنهم او يتكلمون عنها، عبر صوت موحد ألقى بظلاله على كل ما وقع تحت نظر الكاتبة، من عادات وتقاليد المجتمع الغنية بالشواهد الاعمق اثارة والتي تميزت بها القصة الواقعية. فجاءت القصص ذات طابع حيوي قريب لاهث ذو أفكار واسعة جدا، اقتربت من البساطة برغم الاحداث الممتلئة بالكثير من التفاصيل والمعتمدة في أغلب الاحيان على الذاكرة أو التاريخ أو أحلام اليقظة «الحلم سجل اللاشعور وما الانسان الا كائن موزع تأريخيا واجتماعيا داخل الحلم، أي ماض يسترجع وحاضر يعاش» (7). عموما إن ما تناولته القاصة في مجموعتها ينسجم والطموحات المبتغاة والرغبات المرجوة المخبأة داخل الأمنيات. لذلك نرى أن ما كتبته هو مرآة ما بداخلها من هموم وأسئلة شائكة نقلتها على ألسن نسائها. أو بالأحرى ان الكاتبة وجدت مسوّغا لايصال أفكارها وبطريقة مبسطة الى ذهن أبسط قارئ. وبتحديد نماذج من قصص رشيدة الشارني أرجو أن أكون قد وضحت ولو شيئا بسيطا من عالمها القصصي في مجموعة تستحق أن تأخذ مكانها اللائق في مكتبة المنزل. المصادر 1 د. نوال السعداوي لقاء، نشر في صحيفة الزمان، العدد 1514 في 26 ماي 2003 2 الناقد محمد البدوي دراسة مرفقة مع المجموعة 3 د. بشرى البستاني الحوارية خطاب المرأة المؤجل. مجلة الأقلام، العدد الثاني لسنة 1999 4 الناقد ياسين النصير إشكالية المكان في النص الأدبي بغداد. دار الشؤون الثقافية العام 1986 ص 250 5 الناقد محمد البدوي المصدر السابق 6 الناقد ياسين النصير المصدر السابق ص 190 7 الناقد ياسين النصير المصدر السابق ص 159