الحديث إلى شاعر في قامة منعم الفقير ممتع خصب. هو رجل يبهرك بحفاوته ودفء ابتسامته التي لا تفارق محياه أبدا. كما يدهشك بصراحته ووضوحه وقدرته على تسمية الأشياء بأسمائها وكأنه ليس شاعرا إمتهن الاستعارات وأتقن صناعة المجاز. للشاعر منعم الفقير العديد من المسؤوليات في الحراك الثقافي والفني الذي تعيشه الدنمارك، فهو الرئيس السابق لجمعية الشعر في اتحاد الكتاب الدانماركيين. وهو عضو الهيئة الإدارية ولجنة العلاقات الدولية في اتحاد الكتاب الدانماركيين ورئيس تجمع السنونو الثقافي في الدانمارك ورئيس تحرير مجلة السنونو (مجلة بالعربية تعنى بالثقافة الدانماركية) ورئيس تحرير مجلة ديوان (مجلة بالدانماركية تعنى بالثقافة العربية). حين التقيت منعم الفقير كان حديثه تلقائيا وهو يسرد رحلة الحياة بلا نسق ولا منهج، فكان حديثا يفيض من الخاطر فيضا فتتواشج الوقائع والأسماء والتواريخ والوجوه والأمكنة: «مغادرتي للوطن كانت قسرية»، هكذا بدأ حديثه عن رحلة الغياب العجيبة كما يحب أن يسميها. ثم يضيف: «الحرية حين تصادر، وحين يكون الرأي غير مقبول، حين يجرّم الفكر، عندها تصبح الهجرة ضرورية رغم الوعي بأنّ من يخسر وطنا فلن يربح العالم. في مثل هذه الظروف، يبقى الفن هو العنصر المطهّر الوحيد. كنت في مجموعة من المثقفين الملتزمين. أسّسنا فرقة مسرحية تضمّ أربعين ممثلا، وكانت تجربتنا المسرحية فريدة لأنها كانت مغامرة حقيقية. فالعروض كانت تقام في الحدائق العامة وفي الساحات وفي المقابر. لم أخيّر حين غادرت العراق. ولم أختر أيّ مدينة، غادرت العراق بقرار من التنظيم الحزبي الذي كنت أنتمي إليه. وكان من المفروض أن أقيم في بيروت لمدّة وجيزة لن تتجاوز الأيام العشرة. وها أن تلك الأيام المعدودة أصبحت ثلاثين عاما». قلت: وما الذي بقي في ذاكرتك من العراق وقد غادرته شابا؟ قال: «أنا لا علاقة لي بالعراق.. بغداد هي قلب العراق، قلب الحبّ. أنا ما غادرت العراق. ولكن العراق غادرني عنوة. لذلك انفرد بي الحنين كإنسان.. ومع ذلك لا أستطيع أن أكتب عن بغداد ولا عن بيروت التي لها فضل كبير عليّ والتي أحمل لها كل الحب». قاطعته: كيف تفصل بين القصيدة والمكان؟ كيف يكون الشعر خارج المكان؟ أجاب: «لا أعرف. أنا لست سيّد القصيدة. أنا ضحيّة القصيدة، فهي كالحلم الذي تنام وتنتظره. ولكن دعني أقل لك إنّ وراء كل قصيدة امرأة. فالمرأة هي الوجه الجمالي والأنثوي للقصيدة، كما أنّ القصيدة هي الوجه الجمالي للمرأة. ومع ذلك فإنني لست كأولئك الشعراء الذين يستندون الى الرمز لمداراة ذلك. فيكتبون المرأة باعتبارها رمزا للأرض رمزا للقصيدة ورمزا للحياة. لا أحب هذا التلاعب الباهت المتكلف. ولذلك ربما لم يحرّكني ما يدور في العراق لأكتب شعرا عن العراق وعن الوضع في العراق كما كتبه بعض الشعراء بكل تلك الحماسة الخالية من الفنّ. أنا دائما أقول إنّ وجه المرأة هو الذي يمنحنا الإلهام والقدرة علىالكتابة. والانسان ليس كائنا إن لم يكن نائما على كنز من الذكريات. والشاعر حين يكون كذلك يصل الى حالة من الفيض الذي نريد أن نودعه عند المرأة. حينها فقط تنشأ القصيدة». قلت: كأني بك تلمّح الى محمود درويش، وهو الشاعر الذي ارتبط في كل ما كتب تقريبا بهذا الاختيار الذي تتعالى عنه وترفضه؟ قال: «درويش شاعر قضية. ولولا تلك القضية لما كان درويش الذي نعرف، بغض النظر طبعا عن كفاءته الفنية. كنت أقرأ شعر درويش، وكنت معجبا أكثر بنثره الذي كان جميلا ومهمّا. درويش شاعر مثقف، وتفكيره عميق، ولكن أعتقد أنّ ما يميّزه عن غيره من الشعراء هو نبل ارتباطه بالقضية». أستشعر من كلامك تحفظا على محمود درويش. فهل يعود ذلك الى دوافع شخصيّة تحاول تبريرها بالتعلات الفنيّة والاختيارات الشعرية؟ علاقتي بمحمود درويش نشأت في بيروت سنة 1981. بدا آنذاك شخصا متعاليا انطوائيا. كان كثير الصمت، ميّالا الى العزلة. لا يكلم أحدا من الحاضرين على خلاف أدونيس الذي كان مرحا وحفيّا جدا. مع مرور الزمن اكتشفت الجانب الانساني الدافئ في محمود درويش. التقيته قبيل وفاته في سراييفو سنة 2008. كنّا في تجمع شعري عالمي، وأهديته آخر إصداراتي: «أنطولوجيا الشعر الدنماركي». فرح بها كثيرا، وقال لي إني فتحت له باب معرفة الشعر الدنماركي الذي كان يجهله تماما. أحترم في درويش ثقافته الواسعة وانفتاحه على كل ما يمكن أن يساهم في تطوير تجربته الشعرية التي لم تتوقف أبدا رغم وفائها لأصولها واتجاهاتها الكبرى. كيف تقيّم عين الشاعر الراهن، وكيف ترسم القادم؟ من الجلّي أن هدير آلة الحرب أعلى وأقوى اليوم. ولكن نداء المحبّة دائما أبقى. الانسان اليوم يقبل قرار الحرب بسرعة لأنه لا يملك تأهيلا جماليا وجدانيا.. الإيديولوجيون والسياسيون يعتقدون أنّ الحرب ضرورة. ولكني كفنان أقول إنّ الحرب جريمة. الحرب ظاهرة عقلية وليست وجدانية. إنّ استشراء العنف اليوم ليس إلاّ نتيجة ذلك الخوف الذي يبعدنا عن الآخر، والذي يبني الكراهية. والمؤسف حقيقة هو أنّ الفن أصبح مخترقا، وأن الشعراء أصبحوا أقرب الى الخيانة منهم الى الوفاء. فالشاعر متزلف للسياسي ذيل له لأنه يعتقد أن البلاط هو دائما منطلق المجد الشعري. الشاعر الحقيقي كان دائما غريبا مهمّشا. وأنا مؤمن بأن القصيدة قادرة على فرض ذاتها بفضل مناعتها الذاتية المتطوّرة آليا. قصيدة اليوم هي قصيدة تأمليّة. وأنا شاعر أحسن الاستماع الى قصيدتي التي تقول لي مثلا: كن مناضلا من أجل الانسانية، تلك عائلتك الكبرى. أو كأن تقول لي أيضا: العشاق وحدهم يستطيعون حماية الجمال. والحب هو القائم على الوجود الفعلي للبشرية. إنّ عصر الاستماع الى القصيدة الى زوال الآن. لذلك نحن نعيش عصر تأمل القصيدة. الدنماركيون لهم تجربة فريدة رائعة يختزلونها في عبارة «طاولة الليل» التي تعني إعتيادهم طقس القراءة المقدّس الذي يجب أن يرافق حياتنا نحن العرب ويدخل في تقاليدنا. مع الأسف نحن أمة لا تقرأ ومع الأسف أيضا أن الشاعر العربي والمثقف عموما مايزال سجين الايديولوجيا. الرأي عندي أن الشاعر لا يجب أن يكون إلاّ إنسانيا. هكذا ربما يكون خلاص الانسانية ممكنا. هكذا تكون ربما حياتنا أجمل وأقل عنفا وإحباطا. كيف ترى خاتمة هذا اللقاء شعرا؟ قصيدة صناعة وطن: مرة أخذت: قليلا من التراب قليلا من الأعشاب قليلا من المياه كثيرا من الأسلاك فهل أسميه «عراق»؟