وجدته نصا مختلفا عن غيره من النصوص بعيدا عن كل التصنيفات ولن تحقق لنا قراءة الجانب الجمالي أو السردي أو اللغوي ما نبحث عنه من متعة ولذة للتماهي والتجانس مع النص... فحاولت أن أكون مريحة مع نفسي ومع القارئ... اختيار شكل مختلف للغوص في هذا النص واعطائه حقه ربما يختلف الدافع للكتابة من شخص لآخر وربما تتباين أسباب اقدام كل شخص على الامساك بالقلم ولكن يظل السر كامنا في تلك البهارات الخاصة التي تمنح للنص مذاقا وطعما مختلفا... تضع فيه بعضا من الروح... من العقل... من الجسد... تضع فيه سرا من أسرار فرد أو أسرة أو مجتمع بأسره بكل ما فيه من متناقضات... من حقائق وأوهام فسر الكتابة هنا نحن... قد تغضب أحيانا حد الانفجار فتمسك القلم وتكتب... قد تسعد وتطير كطيور هدى ادريس فتكتب... أو أحيانا قد تحزن لفراق من تحب كائنا كان أو فكرة فترسم على الورق كلمات هي بعض ما فيك أو كل ما لديك وعلى عيوب ما تكتب وما فيه من أخطاء تحبه لأنك تحسه... ذاك هو اذا الدافع للكتابة حب الاشياء والاحساس بها والانتصار لها... لقضية لموقف... لرأي. اليوم بعيدا عن النقد والنبش في النص سنتعلم معا كيف نحب النص ونستمتع به... نتذوقه ولما لا نحتسيه بمتعة ورغبة... فبين أيدينا اليوم نص مفعم بالحب من صورة الغلاف... الى العنوان بلونيه الابيض والأحمر وصولا الى ما فيه من سطور... وضعت فيه صاحبته الكثير من الاحساس... عبر عن جيل حالم... يرغب في التصريح باختلافه، يتحدث بجرأة عن علاقاته وطموحاته عن هزائمه وحبه للمكان «شارع الحبيب بورقيبة» وتعلقه به. بوح ومصالحة تجد الكاتبة توغل في وصف تفاصيله... شوارعه، مقاهيه... ومطاعمه، فتطرح من خلال تعلق نجلاء بطلة النص بأرضها مشكل الهوية ومدى القدرة على التشبث بها في ظل ما نواجهه داخل مجتمعنا من تحديات وتعقيدات وما تقدمه لنا المجتمعات الأخرى من اغراءات. ورغم أن «نجلاء» بطلة هدى ادريس المنتصرة للمرأة والمدافعة عنها... المتعلقة بوطنها خذلتني في نهاية النص عندما اختارت السفر الا أنني وجدت في شخصيتها جوانب كثيرة تشبه الكثيرات ممن عرفت... فأحببتها واخترت أن أستمتع بها بعيدا عن الدراسة والبحث عن الاخطاء. نص اخترت أن أحبه بعيدا عن التضيفات فليس برواية ولا قصة أو حتى سيناريو فيلم رغم أن للمؤلفة تجارب في كتابة السيناريو... انما هو تلك البرهة الفاصلة بين الدمعة والابتسامة بين النسوة والألم... بين اللقاء والفراق تلك البرهة... التي أسميها «البوح والمصالحة مع الذات» فلكل شخصية حكايتها وماضيها وقصة لم تخجل من أن تبوح بها للكاتبة... فجاء النص نابضا بالحياة... نبضا لواقعنا وجزءا منه... جزء يجتهد البعض في اخفائه لكنه يتمرد عليهم ويهرب منهم ويواجههم كلما نظروا في المرآة... هذا النص هو الوجه الآخر للمجتمع... حقيقته المخفية تحت آلاف الاقنعة من الزيف والعجز عن البوح أردت من خلال هذه القراءة أن أوجه دعوة للقارئ ليتعلم الاحساس بالنصوص بعيدا عن الكلمات الصعبة والجمل المركبة... نحب لأنه بمحبة الأشياء ندرك قيمتها... دعنا اليوم نخرج الادب من دائرة الدراسة والبحث... نجعله قريبا منا نفتح له الباب كي يصبح جزءا من يومنا... فنفهمه ولا نتسرع في الحكم عليه ونتعرف اليه من خلال صفحاته 184 التي طرحت فيها هدى ادريس أكثر من قضية تهم المجتمع العربي والتونسي بصفة خاصة... فتحدثت عن التحرش الجنسي والابتزاز... عن علاقات المثليين ونظرة المجتمع لهم... عن التحرر والتمرد في مواجهة العادات والتقاليد... جرأة وجاء النص جريئا وهي جرأة تحسب لها وما أحوجنا اليوم لنصوص تنفض عنا الغبار وتضغط على الجرح مباشرة... كي ننهض ونتعلم المواجهة فطرح قضايا متنوعة ومهمة يعكس جرأة هدى ادريس وقدرتها على التحكم في نصها وشخصياته رغم أن طرح أكثر من موضوع قد يفقده أحيانا توازنه ويجعل بعض المواضيع مهمشة يأتي عليها الذكر دون تعمق فيضعف اقتناع القارئ بما جاء فيه. تحملنا «طيور الشارع الكبير» الصادرة عن منشورات «وليد وف» لصاحبها الرائع وليد سليمان في رحلة بين الأمس واليوم بين الحقيقة والذكرى حكايات وأسرار نكتشفها مع «نجلاء» بطلة النص... الفتاة التونسية الباحثة عن الحب والذات عن الخلاص من الزيف والاقنعة... تحملنا لنعيش معها حكاياتها... قصصها... لنشاركها يومها ولا تبخل علينا بتفاصيله... نعرفنا بأسرتها بحبيبها «ذاكر» وصديقها «نذير» مع كل شخص نكتشف شيئا جديدا ومختلفا... ونتعرض لقضية اجتماعية و«أخلاقية أو دينية» لا تشبه احداها الأخرى... مع ذاكر تطرح قضية العنصرية التي تواجهها الجالية العربية بالخارج. مع وليد وأكرم تطرح مشكل المثليين أو ما يسمى «بالشذوذ الجنسي» ومدى تقليل المجتمع له. مع والديها تطرح مشكل الخيانة الزوجية وغيرها من القضايا حتى كأنك تخال نفسك أمام صورة ورقية للمجتمع بكل ميزاته وأخطائه... بكل ايجابياته وعيوبه «طيور الشارع الكبير» صور صغيرة لمجتمعنا الكبير ومحاولة للغوص فيه فهذا النص البكر يتطلب عملا ومجهودا وتضحية وكل تجربة على اختلافها تستحق الاحترام والاعجاب.