(1) تعودنا في بلداننا النامية وحتى الصاعدة منها أن نتعامل مع الفعل الثقافي كحدث خارق منعزل عن الواقع الحقيقي لمجتمعاتنا في مرة أولى وعن الرهانات الكبرى المطروحة على الساحة العالمية في مرة ثانية. إنها عزلة مضاعفة جعلت العمل الثقافي عندنا يتأرجح بين إرادة تقريرية توجيهية لا مصداقية لها ولا نجاعة، وبين نزعة ترويحية ترفيهية لا تأثير لها ولا أثر. أما حضورنا عالميا فهو لا يكاد يذكر. قد يعود هذا النمط من التعامل إلى أسباب عديدة وقد يعود خصوصا إلى رؤيتنا للدولة الوطن L›Etat-Nation التي نعتبرها الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لأنها أي الدولة الوطن هي التي تضمن لنا ممارسة حقوقنا السياسية وهي التي تهيء لنا أسباب العيش الكريم. لكن هذه الرؤية وإن كانت في جوهرها صحيحة لاستنادها إلى ثوابت أفرزتها تطورات تاريخية منها خصوصا أن الدولة الوطن كانت منذ القرن التاسع عشر الحل الوسط الأمثل بين القبيلة والامبراطورية، بين الرابطة الدموية الضيّقة وبين الانتماء السطحي قلت وإن كانت هذه الرؤية صحيحة في أصلها فهي من منظور تطوّر حضاري أصبحت تحتاج إلى مراجعة عميقة حتى لا يصبح مفهومنا للدولة الوطن عائقا أمام رقينا وتألقنا اللذين لا سبيل إليهما اليوم دون رصد وفهم التحولات التاريخية الكبرى والانصهار الفاعل في الديناميكية العالمية. (2) إن مسألة الانتماء مسألة رئيسية وهي باقية كذلك أبدا، لكنها كما أشرنا سابقا ليست جامدة ولا محسومة ثابتة. إنها في تطوّر دائم وإن تسارع نسقه منذ عقد أو يزيد قليلا، منذ ذلك التجمّع الرهيب سنة 1999 بمدينة سيتل Seattleالأمريكية لأناس يعدون بمئات الآلاف قفزوا على حدود الدول ليؤكدوا بدء عهد جديد في التعامل مع السياسة وليثبتوا ضرورة تجديد مضامين الوطن والدولة والانتماء لأن الرهانات المطروحة أصبحت تتجاوز المفاهيم التقليدية الموروثة. إذ كيف يمكن أن نتعامل مع قضايا الانحباس الحراري مثلا أو الارهاب العالمي أو انخرام التوازن الاقتصادي دون الاستجابة لضرورة بناء تضامن عالمي أو «فوق دولي»؟ إن الدولة الوطن مهما كان حجمها لم تعد قادرة وحدها على حلّ كل الاشكالات المطروحة على شعبها وضمان مصالحه بالاعتماد على إمكانياتها الذاتية. وعلى عكس ذلك فإن المواطن لم يعد يعوّل فقط على قدرات الدولة الوطن ليجد الجواب الشافي لانشغالاته ولتطلعاته. من هنا تُطرح مسألة الانتماء طرحا ملحّا قد يدعو إلى إعادة النظر في علاقة المواطن بالاعتماد على الوطن لا الانتساب الجغرافي بل بالارتكاز على مشروع ثقافي يساهم المواطن في تحرير ملامحه وبلورته على أساس مزدوج محلي أولا ينطلق من خصوصيات معروفة ومعلومة وعالمي ثانيا يطمح إلى التحاور والتعاون مع الآخر. «إن الشعب لا يصنع الوطن كما يقول الفيلسوف الفرنسي بول تيبو Paul Thibaud وإنما يصنعه هدف مشترك». (3) إن ظهور التحديات العالمية وقفزها على حدود الدولة الوطن لا يضعف سيادتها بل يدعمها ويقويها إذ هي توفّر الفرصة للسياسي للابتعاد عن التقاليد البيروقراطية البالية التي لا تترك المجال لقدرة التفكير وسلطة الخيال، كما أن هذه التحديات بما تكتسيه من تشعّب وخطورة تعطي للمواطن إمكانية القطع مع عقلية الدولة الحامية ذات الموارد التي لا تنتهي والحلول الجاهزة، وتحمّله مسؤولية كاملة في المشاركة في اختيار مشروعه الحضاري. من هذا المنطلق يتغيّر مفهوم الديمقراطية ليصبح مقياسها الحقيقي لا فقط حريّة الانتخابات والتمثيل والتداول بل أساسا مدى تشريكها لأكبر عدد من المواطنين وإسهامهم في الشأن العام. والحقيقة نقول إن هذا التمشّي قد كرّسه الرئيس بن علي وجعله يتوفّق مبكرا للاستجابة للتحوّلات العالمية بفضل ما توفّر من مجالات للتفكير والحوار والتشاور حول أمهات القضايا في مختلف المجالات مما نمّى في التونسيين قدرة المبادرة والاقتراح على كل المستويات محليا ووطنيا وعالميّا وأضفى في ذات الوقت مزيدا من الشرعية على قرارات الدولة باعتبارها الشريك المنفّذ لهذا المنوال من الحاكمية الرشيدة والمؤتمن على نجاحه. (4) إن الثقافة لا يمكن أن تبقى في عزلة عن هذا التطوّر النوعي الذي أصبح يميّز العمل السياسي في بلادنا فهي مطالبة وهي أولى بذلك بفتح مجالات التفكير والمبادرة على هذا الاساس المزدوج من لزوم الانتماء المحلي والتطلع الكوني. إن مسؤولية المثقفين اليوم أعسر وأخطر من أي وقت مضى ذلك أنهم مطالبون مثل الفيلسوف الاغريقي ديوجين بايقاد النار في المصباح في ظاهرة النهار لانارة الرأي العام حول مخاطر المشروع الليبيرالي الجديد السّاعي الى تحويل العالم الى «سوبر ماركت» يفرض فيه القوي سلعته على الضعيف ويستهدف ثقافته التي تصبح مجرد نشاط محلي ذي قيمة ثانوية هدفها التسلية العمومية في مواسم السياحة والأعراس. (5) لماذا تراجع مسرحنا وعمّته ظاهرة «ألوان مان شو» الاستهلاكية السهلة الضحلة فامتنع عن طرح المسائل الانسانية الجوهرية بعد أن هجره كبار الكتاب المسرحيين الذين رافقوا اجيالنا السابقة وأناروهم أمثال شكسبير وقارسيا لوركا وغيرهم من الاغريقيين القدامى كصوفوكل وإيشيل وأوريبيد؟ كيف وصلت موسيقانا الى هذا المستوى من الرداءة والابتذال فلم تعد قادرة على القيام بالحدّ الأدنى من دورها في التعبير والإطراب؟ أردت أن أطرح هذه الأسئلة المحرقة والصيف قد حلّ ليثير فينا ذلك الارتكاس الشرطي المهرجاناتي فنتلهى عن الثقافة بشبه الثقافة لأذكّر أنه ربّما حان الوقت لنحزم أمرنا تفكيرا واقتراحا ولنقطع نهائيا مع ما حصل عندنا من ممارسات لم تعد تسمن ولا تغني من جوع ثقافي. إن حاجتنا اليوم ملحّة الى مجهود جادّ في التكوين والتوجيه والتوعية حتى نوفّر أسباب نحت سياسة ثقافية نافذة تستفيد مما توفّره السلطة من إمكانات هامّة ولتكون خير داعم لثقافتنا السياسية الرائدة.