يصعب على زائر لبنان أن تطأ قدماه أرضه دون أن يجذبه سحر المخيمات الفلسطينية وحنين اللقاء بجزء من فلسطين، قضية وشعبا، فهناك اللاجئون منذ النكبة وهناك الشباب المتمسك بالوطن وهناك الأطفال الحالمين بالعودة الى فلسطين، كل فلسطين، حتى وان لم يدخلوا أرضها يوما ولم يشموا بعد روائح زيتونها وزعترها وليمونها.. من مخيم «برج البراجنة» أكبر مخيم في العاصمة بيروت كان المنطلق لجولة أمنتها كرامة الشعب الفلسطيني وجود اللاجئ حتى وان شكا من ضنك الحياة وقسوتها.. سؤال تطرحه على خاطرك ما ان تدخل المخيم.. هل نحن في الضفة الفلسطينيةالمحتلة أم القطاع.. هل نحن في القدسالمحتلة أم في حيفا والصفد ؟.. أعلام فلسطين ترفرف من على كل بيت ومؤسسة ودكان.. وصور قادة المقاومة الفلسطينية والزعيم العراقي الشهيد صدام حسين ترصع واجهات المتاجر والأسواق.. وحتى اللكنة الفلسطينية الأصيلة لا تزال مصونة عن الانفساخ والتغيير.. والوجه الفلسطيني الطيب لا يزال ذاته مطلا عليك من فتحة الأبواب أو من فرجة الشبابيك.. تحاصرك فلسطين في كل زقاق من أزقة المخيم وتطوقك بدفئها الأبدي فتصير من غير أن تشعر جزءا من قصة الترحيل واللجوء وحتى المعاناة.. قبل أن تذوب كليا في عذبة الضحكة المنفجرة من شفاه اللاجئين فرحا وترحيبا بالضيف التونسي.. هم لم ينسوا تونس الحضن زمن اللاحضن.. كما لم ينسوا أرض فلسطين بترابها وبجبالها وبقراها وبمدنها بأتراحها وأفراحها.. «الذي فقد منزلا يشتري آخر.. والذي فقد حبيبا غدا ينساه.. والذي فقد وطنا لا يمكن أن يعوضه بأية وسيلة «.. يقول الحاج محمد حسين أبو حسان من مواليد قرية عسعس قضاء صفد شمال فلسطينالمحتلة سنة 1931.. قبل أن يضيف « هذا الوطن لا تستطيع أن تتجاهله فهو يحتويك.. » 80 سنة الا قليلا.. عاش منها الحاج محمد حسين 15 عاما في أرضه وقرب عائلته والباقي عاشها لاجئا بين المخيمات اللبنانية.. وعلى الرغم من هذه السنوات الطوال لم ينس يوما فلسطين.. يحدثك عن بيته حجرة حجرة وعن جيرانه واحدا واحدا وعن مزارعه دونما دونما.. وكأنه لا يزال هناك.. يحدثك عن البيضة التي أخذها معه عند الترحيل وعن الدجاجة التي تركها في البيت أملا في العودة القريبة الى أرضه.. يسرد لك حكاية الأيام العشرة التي اعتبرها جيش الانقاذ العربي مدة كافية جدا لطرد الغزاة واعادة أبناء الوطن والتي أصبحت 62 عاما.. يحدثك عن مفتاح الدار المعلق في كل بيت فلسطيني.. ويحدثك عن الغمامة التي يبصرها بكل حنين واشتياق كيف لا.. ؟ وقد مرت فوق أرضه المغصوبة قبل أن تصل الى المخيم.. مثله في الشوق لفلسطين كل «ختيار» و»حاجة».. في المخيم.. ومن بينهم أيضا السيدة أم غالب ( 78 سنة ).. التي اغرورقت عيناها عندما دفعنا الفضول الى سؤالها عن رائحة فلسطين ورياحينها.. قائلة بالعامية «فلسطين حلوة كثيرة يابني ما فيه شي أحلى منها».. مضيفة «فلسطين تعبق بريح الورد في الربيع وبريح القمح في الصيف».. مع هؤلاء وغيرهم يصعب الحديث عن عزم للعودة التي تعيش فيهم ويعيشون فيها.. فهم متمسكون بالحق وباحقاق الحق.. وحولوهما الى ارث تتناقله الأجيال وتتوارثه الأبناء.. من بينهم محمد صاحب السبع سنوات.. الرافض على صغر سنه تنازل أي طرف فلسطيني عن حق العودة.. ويرفع كما يرفع جده وأبوه لاءاتهم الثلاث «لاعودة عن حق العودة».. ولا للتوطين.. ولا تجزئة في أفواج العائدين.. تحيّرك رباطة جأش الصغار والكبار.. وقدرتهم الكبيرة على التحمل وعلى الصبر والمصابرة والاصطبار.. فأن يعيش 20 ألف نسمة في مخيم مساحته 800 متر مربع فحسب يتطلب قوة على الصمود وأن يحيا هؤلاء في بيوت لا يدخلها نور الشمس ولا سراجها يتطلب جلدا كبيرا.. لا يأتيه الا شعب الجبارين.. جبارون خارج الجغرافيا البشرية والاجتماعية.. هكذا أرادت الحكومات اللبنانية السابقة أن يكونوا.. فأزقة المخيم تفرض على صاحبها الاستدارة جنبا (الدخول عبر الكتف).. للمرور.. ومجاري المياه المغلقة أو المعطبة تجعل من المخيم مبعثا للروائح الكريهة.. والبنايات المتراكمة والمتداخلة والمتهاوية كقطع الشطرنج الساقطة على الرقعة.. والأسلاك الكهربائية المتدلية من المباني والسطوح والمهددة لحياة كل قاطني «برج البراجنة».. تجعل الحياة مستحيلة.. والاحساس بالكرامة صعب ان لم نقل منعدم.. هو واقع مليء بالمرارة كما يقول مديب أبو العنين لاجئ وأمين سر اللجنة الشعبية لتحرير فلسطين.. فالكهرباء كثيرة الانقطاع والمياه غير الصالحة للشرب والتي تصل ملوحتها نسبة أكثر من 60 في المائة تفتح فقط نصف ساعة لليومين الكاملين.. الأمر الذي أصاب الكثيرين بأمراض جلدية عديدة.. مما أدى الى التجاء البعض لتكرير المياه حتى تنقص نسبة التلوث.. والبطالة استفحلت في أوساط شباب اللاجئين الفلسطينيين الذين اختاروا قارعة الطريق سبيلا لامضاء الوقت بعد أن سعى البعض في لبنان الى قتل الأمل فيهم. الحاجة أم غالب.. قسمت منزلها المكون من غرفة واحدة أصلا الى متجر ومسكن عساه يدفع الأمور الى الأحسن والأفضل.. هي «تدبر راسها» مثلها مثل أبناء المخيم الذي اتخذ كل واحد منهم طريقا للتمعش.. فمنهم من يكرر المياه الملوثة بمقابل ومنهم اتخذ متجرا متنقلا ومنهم أيضا من اشتغل في المهن الحرة الأخرى بعد أن أغلقت الحكومات اللبنانية في وجوههم سبل العمل الكريم. وجع اللاجئين.. لا يقف عند الأحياء فحسب بل يبلغ حتّى الأموات الذين يفرض الاكتظاظ الرهيب اخراج جثثهم من نوافذ البيوت المتلاصقة حتّى تصل الى التابوت.. ومنها يبحث لها عن مكان في مقبرة تشكو بدورها من الاكتظاظ والازدحام. وعلى الرغم من كل هذا.. يؤكد الحاج أبو عفيف أنهم لا يزالون على العهد وعلى الوعد ولو أعطوهم قصورا وذهبا مقابل عدم العودة.. ضحك الحاج أبو عفيف.. وأردف «كلنا في المخيم كتبنا وصايانا بأن يعاد رفاتنا الى فلسطين وأن يوضع تحت ترابها الطيب عند العودة.. العودة يا بني قريبة جدا».. أليس الصبح بقريب..