قد لا نجانب الصّواب اذا قلنا: ان ثقافتنا العربية المعاصرة باتت، في الأغلب الأعمّ، ثقافةً جادّة، بل متجهّمة، بل مقطّبة الجبين. فقلّما ظفرنا، في هذه الثقافة، بصحافة ساخرة، أوأدب ساخرٍ، أو شعر ساخرٍ. كل مظاهر التفكه والسّخرية والدعابة الطليّة البارعة التي تكشف بسلاسةٍ عن تناقضات الواقع ومآزقه الكثيرة قد اختفت أوكادت من الثقافة العربية. كتّاب قليلون توسّلوا، في ثقافتنا المعاصرة، بالسّخرية لتعرية القبح، واستخلاص الملهاة من الحياة، لعلّ أهمّهم محمد الماغوط، وزكريا تامر، وإميل حبيبي فهؤلاء قد اختاروا الكتابة «نافذة على قهقهة مديدة لكنّها مغمسّة بالألم» على حدّ عبارة بعضهم. لكن هذه القلّة القليلة لم تستطع أن تخلق في ثقافتنا «تيّارا ساخرا» له ملامحه الفارقة، كما لم تستطع أن تخلق «شعرية» للسخرية مخصوصة يمكن الاهابة بها أو الاحالة عليها. ربما ذهبنا، اقتداء ببعض النقّاد، الى أنّ الرومانسية هي التي غمطت الأدب السّاخر حقّه، بعد أن كان حاضرا حضورا غامرا في ثقافتنا العربيّة. فهذه الحركة رسّخت في أذهان الكتّاب أن الألم هو الاحساس الوحيد الذي يلائم النّفوس السامية في هذه الحياة الدّنيا فالانسان، في نظر لامرتين «لم يخلق للضّحك» والشّعوب الجادّة، حسب تعبير هذا الشّاعر، لا تؤسّس أدبها على الهزل أو المزاح أو الفكاهة. لكن ربّما ذهبنا الى أن للظروف التي يمرّ بها الوطن العربي شأنا كبيرا في اختفاء روح الفكاهة في ثقافتنا. فهذا الوطن المثخن بجراح كثيرة، لعلّ أعمقها جرح فلسطين، قد رغب، عن وعيٍ منه أو عن غير وعيٍ، عن الأساليب الضاحكة واختار طرائق في الكتّابة قاتمة. وربّما ذهبنا الى أنّ مناهضة الضّحك يعدّ أحد التيّارات «الفكريّة» أو «الايديولوجيّة» التي ظلّت تجري تحت سطح ثقافتنا تلوّن مختلف تعبيراتها الابداعية. لا شكّ أنّ العديد من أدبائنا القدامى امتدحوا الضّحك وعدّدوا مزاياه، ولعلّ أشهرهم الجاحظ الّذي اعتبره شيئا في أصل الطّباع وفي أساس التركيب، بل ذهب الى حدّ القول: متى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جُعل الضحك «صار المزح جدّا، والضحك وقارا». غير أن هذه الأريحيّة الجاحظيّة سرعان ما ناهضها العديد من الفقهاء الذين أوصوا بتجنّب الهزل «اياك والمزاح فانه يجرّي عليك السفلة» وقالوا «المزاح السّباب الأكبر» بل ذهبوا الى أنّ «من كثر ضحكه قلّت هيبته ومن مزح استخِفّ به». ومهما تكن الأسباب فانّ الثقافة العربية المعاصرة خلت أوتكاد من الكتابات السّاخرة. فالكاتب العربي الحديث رجل متوتّر، متبرّم، لا تنفرج شفتاه عن ابتسامة. والواقع أن الكتابة السّاخرة ظلّت في الاداب العالميّة «بمثابة الكيمياء القديمة التي تحوّل معادن الحياة اليوميّة الخسيسة الى معادن نفيسة.. فبالسخريّة يتحوّل الألم الى ضوءٍ والعجز الى أفكار» على حدّ عبارة الشاعر شوقي بغدادي . انّ السخرية هي قبل كل ّ شيء طريقة في اجراء الكلام وأسلوب في صياغة اللغة . تقول الناقدة سميرة الكنوسي: ان النصّ السّاخر لا يفهم باعتباره ساخرا الاّ متى أدركنا الطابع المراوغ للّغة حيث يتخفّى وراء المستوى السّطحي للكلام مستوى آخر كامن لم يعبّر عنه، ولهذا نحن نحتاج الى قلب المعنى كي ينفجر الضحك، ونحتاج الى كشف المحجوب والمخفيّ كيما تنبجس السخرية. ولا غرابة فقد كان سقراط بارعا في اخفاء فكره حتى لقّب ب Eiron، ومن هنا كان الاخفاء أحد آليات السخرية. هذه الكتابة الساخرة باتت نادرة في أدبنا المعاصر، لهذا وجب على كل من أراد الظفر بها أن يعود الى أدبنا القديم فربّما وجد فيه ضالّته. وربّما كانت قولة محمود المسعدي «الأدب مأساة أولا يكون» خير تعبير عن جوهر ثقافتنا العربية المتجهّمة.