بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي مرت يوم 30 جوان (حزيران) الذكرى التسعون على ثورة الشعب العراقي الرائدة ضد الاحتلال البريطاني. هذه الثورة التي أصبحت تعرف في المصطلح السياسي ب(ثورة العشرين). وقد كانت هذه الثورة المغدورة ثورة الشعب العراقي كله وأصبحت أشهر مدن العراق جنوبا ووسطا وشمالا مراكز لهذه الثورة ترفدها بالمقاتلين والعتاد والطعام وبحماس شعبي لا مثيل له. وقد قادها رجال دين وشيوخ عشائر ووجوه سياسية كانت معروفة وقتذاك. ولم تكن هناك للطائفية ولا للعرقية ولا للمكاسب الآنية الصغيرة أي مكانة في قاموس أولئك المواطنين الذين ساءهم أن يروا جنود الاحتلال يعيثون بالمدن ويسرقون مخازن الاغذية قوت الشعب ليطعموا آلاف المرتزقة الذين جيء بهم من الهند بشكل خاص، وكان أغلبهم رغم ارتدائهم للبدلة العسكرية البريطانية يبقون على لباس الرأس الخاص بهم مع لحيّهم الطويلة، وكانت شراسة المأجورين هؤلاء لا حدّ لها. وقد سمعت الشيوخ الذين عاشوا تلك السنوات يسمون هؤلاء المرتزقة (كركة دسيْك) وكلمة (بيْك) تحيل على (سيخ) الطائفة الهندية المشهورة. ويومها كانت الهند نفسها قد عرفت الاحتلال البريطاني قبل أن تهرم امبراطورية الانقليز وتتقلص وتصبح تابعا صغيرا للامبراطورية الامريكية الصاعدة وقتذاك والتي في طريقها للأفول اليوم. لقد خصّت محطات التلفزة الوطنية هذه المناسبة بالاهتمام وخاصة قناة الرافدين التابعة لهيئة علماء المسلمين إذ أن أمينها العام الشيخ حارث الضاري هو حفيد أحد أبطال هذه الثورة الشيخ ضاري المحمود المكنّى أبو سليمان الذي قتل بنفسه القائد البريطاني المتغطرس «لجمن» بعد أن بالغ في أذاه للشعب العراقي المسالم الذي كانت النسبة الكبيرة منه وقتذاك من الفلاحين البسطاء الذين لم يرتضوا الذل والضيم وعندما اندلعت الثورة انخرطوا فيها بحميّة وحماس رغم أن خصمهم كان يمتلك الاسلحة الفتاكة من طائرات حربية ومدافع (كان العراقيون يسمّون المدفع الطوب)، وكانت الطائرات تغير على الاراضي المنبسطة المكشوفة والبيوت المبنية من القصب والطين أو الخيام ويحرقها بمن فيها دون حساب لطفل أو شيخ. كان مقتل «لجمن» على يد الشيخ ضاري قد أرعب بريطانيا ولذا قررت القضاء على الثورة بأي ثمن، وكان الهتاف الخالد الذي ردده العراقيون بزهو: «هزّ لندن ضاري وبكّاها). ولكن كل المعارك لم تكن متكافئة لا في السلاح ولا في التدريب العسكري، ومقابل المدافع والطائرات البريطانية هناك السيوف والخناجر وبنادق الصيد البسيطة والمكاوير، ومفردها (مقوار) وهو عصا قوية بطول متر لها رأس صلب ومن هنا حملت الذاكرة تلك الأهزوجة المتحدية التي تسمى باللهجة العراقية (الهوسة) وتقول كلماتها: (الطوب أحسن لو مقواري) والطوب هو المدفع كما أسلفنا، مات المئات ونفقت الحيوانات واحترقت المزارع وعمّ الجوع والسخط، ولكن الإرادة المتحدية هي التي بقيت. وكانت المعارك الكبرى قد دارت في البصرة ومناطق الفرات الأوسط، وأصبحت الناصرية أحد مراكز هذه الثورة وفيها توفي بعد مرض لم يمهله شاعر ثورة العشرين الشيخ محمد سعيد الحبوبي الذي سمّي أكبر شوارع المدينة باسمه وأقيم له فيه تمثال هو بالمعنى الأعمق رمز للثورة كلها. إن روح ثورة العشرين هي التي أمدّت المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي بالعنفوان التي هي عليه لقناعتهم بأن كل احتلال يجب أن يواجه بالمقاومة ومثلما اندحر الاحتلال البريطاني سيندحر الاحتلال الأمريكي المترنّح بعدما أفشلت المقاومة أحلام الغزاة رغم أن ما يجري اليوم فوق أرض العراق العربي غير ما كان زمن ثورة العشرين، زمن الوطنية الصافية حيث لم يجد الاحتلال البريطاني عملاء له بين أهل البلد، لكن الاحتلال الأمريكي وجدهم واعتمد عليهم وكانوا له أدلاء ومسوّقين لاحتلال البلد الكريم. ولذا فإن التاريخ عندما يفتح صفحاته الناصعة، صفحات محمد سعيد الحبوبي والشيخ ضاري المحمود والعلامة الخالصي الكبير ستشرق صفحات النور والسؤدد، وعلى العكس منها سيجد أسماء الأدلاء والأتباع في الظلام الاحتقار ولا يجري الاستشهاد بها إلا كنماذج لخونة الشعوب وباعتها. ليدم للأبد ضوء ثورة 30 جوان (حزيران) 1920 وليتواصل فوح أريجها الرائع.