الكيلاني بن منصور أستاذ باحث ماجستير الأدب [email protected] على الرغم من أن الشيخ حسين المرصفي ظل مجهولا في سيرته وحياته لانكبابه على المطالعة والتأليف والتدريس، على الرغم من كل ذلك فإن التاريخ احتفظ لنا ببعض آثاره الخالدة، واستطاع غرباله الدقيق أن يجعل ذكره خالدا خلود الرسالة النبيلة التي لعبها في مسار الثقافة العربية الاسلامية العظيمة. وبفضل علي مبارك باشا وعبد العزيز الدسوقي وغيرهما استطعنا الاطلاع على النزر القليل من تلك الحياة الخالدة لرجل تجاوز محنة العمى ووطأت قدماه عالما من الأنوار تزينه مصابيح المعرفة وشموع الثقافة العربية الاصيلة. والى جانب قيمته في سماء النقد العربي فإن حياة المرصفي جعلتنا نكتشف لأول مرة أن طريقة براي العالمية قد دخلت العالم العربي عبرمصر منذ ذلك العهد الممتد على مر السنوات التي درس فيها المرصفي اللسان الفرنسي وطريقة لويس براي للمكفوفين. وهذا الشاهد الذي أوردناه سيجعل عديد الدراسات تراجع مضامينها لتعيد النظر في هذه المسألة. فالقائلون بأن محمد الأنسي هو أول من عرف تلك التقنية البارزة في حدود 1901 وما يليها سوف يراجعون معلوماتهم. وفي مقدمتهم كاتب هذه السطور وكذلك الدكتورة سميرة أحمد خليل والباحثة منى الحديدي من الأردن. كلنا كنا نعتقد ذلك لكن ها هو الشاهد الذي سقناه من خلال تسعة أسطر كتبها علي مبارك يؤكد بكل حسم أن تلك المعلومات التي سقناها لم تكن نهائية. فإذا كان الخديوي اسماعيل قد حكم بين 1863 و1879. فإن هذه الفترة هي الحقبة التي تم فيها إنشاء مدرسة للخرس والعميان وقام حسين المرصفي بالتدريس بها بعد أن تعلم طريقة براي واللغة الفرنسية. ونحن لا نستغرب من إنشاء مدرسة للعميان في عهد الخديوي اسماعيل لما عرف به الرجل من إصلاحات تاريخية مكلفة. وفي مجال التعليم والثقافة أعاد ديوان المدارس، وأنشئت في عهده حوالي 4817 مدرسة، بالاضافة الى 5 مدارس في السودان، وافتتح مدرسة للخرس والعميان. دليل المسترشد هو مجلدات ثلاثة تتناول مجموعة من المعارف والعلوم. حيث يرى عبد العزيز الدسوقي أنه الى جانب حديث المرصفي عن الفكر وتقوية العقل واللغة، يتكلم الشيخ حسين عن الانسان وجسمه وتركيبته ووظائفه، ويستدرك في الحديث عن فن الخطابة. وفي المجلد الثاني يتحدث عن الاعراض التي يحاول المنشئ حسن الصنعة في صياغة العبارة عنها وإتقان الكتابة فيها باختيار العبارات الموافقة لأنواعها واللائقة بجزئياتها. وأفرد المجلد الثالث من المسترشد للحديث عن طبقات الكتّاب. «رسالة الكلم الثمان» الكلم الثمان في علم الاجتماع، يعد من الكتب الأمهات في علم الدلالة السياسي كما يقول أنور عبد الملك، بل يعد الكتاب الاول في هذا المجال في مصر كما يقول محمد حافظ دياب الذي حقق أحدث طبعة منه صدرت مؤخرا عن هيئة قصور الثقافة في مصر، فيما صدرت طبعته الاولى منذ 123 عاما في نسخ محدودة، وظل الكتاب تحت طبقات من التجاهل كل هذه الاعوام. (رسالة الكلم الثمان) الذي أصدره الشيخ المرصفي عام 1881م عندما كانت الثورة العربية على الأبواب والصراع محتدما بين القوى الوطني المصرية وبين الخديوي توفيق ومن معه من الاجانب لا شك انه قد تأثر بالأحداث السياسية في عصره، وكان تعبيرا عن حلقة من حلقات مشروع النهضة المصرية مثلما كان متعالقا مع نصوص عديدة سبقته في نفس السياق. ويضيف عبد العزيز الدسوقي قائلا : هذا هو الاطار العام الذي يمكن ان تفهم على ضوئه هذه الرسالة التي يتحدث فيها عن الامة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسة والحرية والتربية». وقد دعى الدسوقي طلبة العلوم السياسية الى دراسة هذه الرسالة التي كتبها أحد رواد علم الدلالة السياسي في مصر. كتاب الوسيلة الأدبية في علوم العربية يقول عنه الدسوقي وعلي مبارك بأنه أهم كتب الرائد العظيم الشيخ حسين المرصفي، وقد أفرد له الدكتور عبد العزيز الدسوقي دراسة مستقلة ضمن تقديمه للسلسلة التي تم ضمنها إعادة طبع هذا الكتاب وهي النسخة الموجودة ايضا بدار الكتب الوطنية التونسية. وقد استمد هذا الكتاب شهرته الكبيرة من خلال التأثير البالغ والعميق الذي أحدثه في الحياة الادبية العربية. وقد صدر ضمن مجلدين اثنين يمتد الاول على 215 صفحة وهو ما يمثل ربع المجلد الثاني، وصدر عن مطبعة المدارس الملكية سنة 1872 كما هو مكتوب على صفحة غلاف الكتاب حسب عبد العزيز الدسوقي طبعا. وقد استغرق طبع هذا الجزء قرابة ثلاثة سنوات حسب ملاحظة المشرف على الطباعة، أما المجلد الثاني فهو الاكبر حجما والاعظم قيمة، ويمتد كما ذكره الدسوقي على 703 صفحات. وقد استغرقت طباعته نحو أربعة أعوام. ويرى الدسوقي ان موضوع الكتاب يجب ان نقف عنده بتريث وأناة حتى نعرف كيف تمكن هذا الشيخ الكفيف خلال القرن التاسع عشر ان يقدم هذا الانجاز الكبير في مجال النقد والدراسة الادبية وان يقود من خلاله حركة البعث الادبي. اتجاهاته الأدبية المرصفي كما جاء في الدراسة التي أفردها عبد العزيز الدسوقي يعد والقول للدسوقي أحد ممثلي المدرسة الاحيائية، وهو يرفض التعريف العروضي للشعر، لأنه يدل على ان الشعر هو «الكلام الموزون المقفى» ويتبنى حدا آخر للشعر ليس محاكيا للتراث فحسب، وانما هو نقل حرفي لتعريف ابن خلدون، ويتحكم فيه الاسلوب المنطقي في الحدود القائم على أساس الفصل والجنس، يقول «الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والاوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة. إن ابداع الشعر يرجع الى الملكة وهي مرة «جبلة وطبع» عند الشاعر، ومرة تنشأ من كثرة الحفظ والمران، ولكنه في كلتا الحالتين تعني الاغتراف من المخزون المحفوظ، ولذلك فإن عملية الابداع تقتضي شروطا أبرزها: ان يكثر الشاعر من حفظ الشعر «حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي كثير الاساليب»ويشير حسين المرصفي الى شعر الرعيل الاول من الجاهليين والاسلاميين والعباسيين. ليصبح الحفظ علة الابداع، وعلة جودته «ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة الا كثرة المحفوظ، فمن قل حفظه او عدم لم يكن له شعر «وإنما هو نظم ساقط، واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ». إن تأكيد الحفظ يدل على ضرورة احتذاء المثال في الايقاع والتشبيه والمفردات والتراكيب، ويتأتى ذلك بالدربة والمران في نظم الشعر. إن مقولة الحفظ والمران صورة من صور التراث النقدي العربي التي تؤكد شروط الابداع وتنوعه، ونشير في هذا السياق الى تعريف علي بن عبد العزيز الجرجاني للشعر في قوله: «الشعر علم من علوم العربية يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز،وبقدرنصيبه منها تكون مرتبته من الاحسان، ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والحديث، والجاهلي والمخضرم، والأعراب «والمولد، الا أنني أرى حاجة المحدث الى الرواية امس، وأجده الى كثرة الحفظ أفقر». ويستدل حسين المرصفي على صحة تصوره هذا بأحد أدباء الاحياء محمود سامي البارودي الذي تمكن من صنعة الشعر بالحفظ والدربة، فالبارودي «لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية غير انه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا الى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراية، وهو يقرأ بعض الدواوين او يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات بحسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة فصار يقرأ ولا يكاد يلحن... ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة واستثبت جميع معانيها ناقدا شريفها من خسيسها واقفا على صوابها وخطئها (كذا)، مدركا ما كان ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء ولشعر الامراء كأبي فراس والشريف الرضي».