يقول بابلو نيرودا، الشاعر الشيلي الذي أهداه عبد الرحمان الابنودي أحدى قصائده: «إن الحب قصير والنسيان عميق كالبحر» وربما ترجمتها «ان العمر قصير والصداقة عميقة كالبحر» هذا ما شعرت به عندما التقيت الشاعر عبد الرحمان الابنودي بعد اكثر من عشرين سنة لم أره فيها الا مرة واحدة منذ تسع سنوات لما أتى الى تونس ليشارك في المهرجانات الصيفية. في تلك الليلة، ليلة 17 اوت. جلست الى عبد الرحمان الابنودي أرى في عينيه المتوقدتين دوما وابتسامته «التي تتغرّب فيها السفن» علامات حمل الحياة الثقيل. كانت المداعبات الجميلة والذكية والخبيثة احيانا. عبد الرحمان الابنودي الشاعر غير عبد الرحمان الابنودي السخص، هو يطلق رصاص كلماته على كل من يتحرك. أعرفه منذ خريف 1973، 34 سنة، رافقته أشهرا طويلة لما كان يعمل على اعداد كتاب الهلالية مع المرحوم الطاهر قيقة، ثم لما ترجمت له الى الفرنسية مجموعة من القصائد نشرها المركز الثقافي الفرنسي بالاسكندرية عام 1975 ولا أملك منها نسخة. قبل ان التقي به عدت الى دواوينه التي تمثل جزءا هاما من مكتبتي الشعرية الى جانب الذين فتنت بهم من كتاب الشعر العامي المصري ولنا عودة اليهم. صوته الرخيم ومداعباته التي تمر احيانا على حد سيف النقد وهو يحمل المعنى زقفونة على كلماته المشحونة بالعذاب والشجن والسخرية. كانت ليلة ابدع فيها عبد الرحمان الابنودي كشاعر وباحث ومنشط فقد اختلطت الذاكرة بالحسرة والذكريات بالغد، والغناء بشجن الرباب الصعيدي الى جانب المغني والراوية السيد الضوي ومرافقيه من عازفين ومغنين قدموا من الصعيد وعند اعتلائه مسرح الحمامات كان طيف يدور حول الركح وهو طيف ذلك المثقف النبيل، العالم والكاتب الرهيف، وراعي المثقفين التونسيين الذي كان بالنسبة لجيلنا الاخ والاب والمعلم الاول أعني المرحوم الطاهر ية، «سي الطاهر» رحمة الله عليه، الذي لولاه لما عرفت تونس الشاعر عبد الرحمان الابنودي كما عرفناه. ذكريات الزمن الجميل على شجن نغمات الرباب الصعيدي، تدور عجلة الذاكرة وترجع بنا الى بداية السبعينات ونتذكّر «الأبنودي التونسي» كيف دخل الابنودي تونس وكيف دخل قلوب الناس؟ ولذلك الأمر حكاية. دخل الابنودي تونس عن طريق جامعة هواة السينما وجامعة نوادي السينما، اقرب الناس اليه كنا أربعة المنصف بن مراد، رضا الباهي، احمد حرز الله وعبدكم المتواضع. عام 1971 عرض فيلم «حصان الطين» لمخرجة شابة لم نعرف عنها شيئا أسمها عطيات الابنودي وفاز الفيلم بالجائزة الذهبية لمهرجان قليبية لفيلم الهواة وتعرّف على الابنودي احمد حرز الله ذلك المثقف الجميل الذي نطلق عليه لقب «القديس» نحبه ونتعلم منه لسعة معرفته وحصافة رأيه وايجابية تحاليله وقدرته على اكتشاف الافلام والمخرجين وولوعه بالادب الشعبي فلما راح الى القاهرة تعرف على عبد الرحمان الابنودي ودل عليه «سي الطاهر قيقة» لتأليف كتاب صدر بالفرنسية عن «السيرة الهلالية»... وتوافق ان عام 1973 كنا اعضاء لجنة التحكيم في مهرجان قليبية، أحمد حرز الله وعطيات الابنودي وكاتب هذه السطور، فكنا بعد الظهر نجلس ونستمع الى عطيات الابنودي تقرأ لنا اشعار ذلك الشاعر الذي لم نكن نعرف عنه الا انه كاتب اغاني وغنى له خاصة محمد رشدي وعبد الحليم حافظ. لكن شعره الذي يسمى عامية ويسمى اليوم الشعر اللهجي... والمنشور في الكتب غير متداول في تونس ولما سمعت هذا المطلع لقصيدة «خيط الحرير» التي تفتح ديوان «الارض والعيال». الليل جدار / اذا يرّن الديك من عليه يطلع نهار / وتنفلت من قبضة الشرق الحمامة أم الجناح / أم الجناح أبيض في لون قلب الصغار / ذهلت... ومن يومها وانا أردد أشعار الابنودي التي اصبحت أحفظها عن ظهر قلب... وبعدها التقيت بالشاعر عبد الرحمان الابنودي في المركز الثقافي الدولي بالحمامات الذي صادف أني كنت أعمل فيه صيفا عندما كان المرحوم الطاهر قيقة يفتح ذراعيه لكل الشباب للعمل صيفا بالمهرجان... وبدأت الرحلة مع شعر الابنودي الذي تتالت زيارته الى تونس حيث كان يقيم في تونس الخضراء، كما يقول دوما شهورا عديدة رافقت فيه شعره الذي غصت فيه مترجما ومتجولا بين ثناياه. لكن من هو عبد الرحمان الابنودي؟ الصعيدي الذي غزا العواصم العربية اسمه الكامل: عبد الرحمان محمود أحمد عبد الوهاب، وقد اختار اسم عبد الرحمان الابنودي. درس في مدارس صعيد مصر حتى اتم الدراسة الثانوية... ثم دخل الجامعة (كلية الآداب قسم اللغة العربية)، وترك الدراسة بها وعاد الى الجنوب. وها هو يعرف بنفسه في وثيقة أرسل بها عام 1974 لما اراد المرحوم حمادي الصيد دعمه لتقديم مشروع الهلالية لليونسكو وهي بخط يده: «نشأ في أسرة دينية... وعاش حياة الفقراء في القرى... مارس الرعي والزارعة وكافة شؤون الحياة في قريته... وبالتالي حفظ كل اغاني الاطفال في طفولته وأغاني الكبار في صباه... كان يذهب للمدينة للدراسة ثم يعود الى القرية... وحينما ذهب للدراسة في الجامعة رفض الاستمرار وعاد ليعمل موظفا صغيرا في المحاكم المختلفة في المناطق المختلفة في محافظته وعرف الناس في أدق دقائق تفاصيل حياتهم اليومية. بدأ يكتب الشعر وهو في المدرسة الثانوية ونشره في كبرى الصحف وهو في سن السابعة عشرة. حنيما عرفته المدينة شاعرا قرر الاستقالة والذهاب اليها وهناك يردد الاشعار في النوادي الادبية والاذاعة وصارت اشعاره على كل لسان... لتفردها من حيث العالم الذي تنقلنا اليه... وكلماتها الجديدة وموضوعات القرية المصرية في جنوب مصر التي لم يتناولها أحد قبله... وعاش بالقاهرة واصدر دواوينه الشعرية وكتب أغانيه الشعبية التي غناها كبار المغنين في المنطقة والتي غيرت وجه الغناء فيما بعد وفي فترة قصيرة نسبيا. اذ ان اغنياته التي استوحاها من الفولكلور المصري الذي يعتبر الوحيد في المنطقة الذي جمعه بطريقة علمية مدروسة تعتبر من اشهر الاغنيات وتزيد على الاربعمائة اغنية وهي تغنى على كل لسان في المنطقة. كما انه كتب العديد من المقالات في الصحف والمجلات المصرية عن الفولكلور كوجه لواقع العلاقات الحياتية والاجتماعية والفكرية في القرية المصرية. هنا يقف التقديم الذي كتب عام 1974، لكن بعدها شق عبد الرحمان الابنودي طريقا جعلته اليوم ودون منازع اهم واشهر شاعر عربي الى جانب محمود درويش الذي يجوب العالم ويدعى ليلقي بقصائده الملتهبة في كل من مصر وتونس والسودان والمغرب وقطر واليمن ودولة الامارات وسوريا والبحرين والاردن وليبيا والسعودية وسلطنة عمان والكويت ولبنان وايضا في اريتريا والولايات المتحدةالامريكية وانلترا وفرنسا والنمسا والمانيا وايطاليا. حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2001 وهي المرة الاولى التي تمنح فيها الجائزة لشاعر يكتب بالعامية، ومن تونس منحه الرئيس زين العابدين بن علي الوسام الوطني للاستحقاق من الطبقة الاولى في قطاع الثقافة عام 1998. الباقي من الثلاثي القاهري كان ثلاثتهم ملّوا الحياة في القرية وقدموا الى القاهرة دون وجهة لا يحدوهم الا البحث عن التعبير، هم أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمان الابنودي. يردد عبد الرحمان الابنودي في أحاديته بدقة: «كان عملي مع أمل دنقل ايضا سنة 1959 في المحكمة الشرعية نقلة مهمة، ما رأيته وعرفته في المحكمة هشم الغلاف المثالي للعلاقات الاسرية في الصعيد، وهو ما لم يتح لي في بيتنا، فقد كان فقرنا «نظيفا» في المحكمة رأيت الصراع بين الفقر والقيم من خلال التقاضي بين الام والابن والاب وأولاده، والاخ وأخيه كنت الكاتب الذي يقبع الى جوار القاضي ليدوّن الاقوال والاحكام، كانت تجربة وعرة وبسبب قسوتها اضطررنا في النهاية، أنا وأمل، ان نستقيل وان نرحل الى القاهرة. والتحق بهم يحيى الطاهر عبد الله اصيل قرية الكرنك... المغشاة بالحزن واعادة قراءة قصص يحي الطاهر عبد الله تعيد لك ذلك الغشاء الاسود الذي يغطي الحلم والحياة والعمل في ضفاف النيل بالصعيد الداخلي. سكن يحي مع عبد الرحمان الابنودي حتى بعد زواجه بعطيات الابنودي... وقتحا معا نوادي ومقاهي القاهرة والاوساط الادبية وبدأ الابنودي الذي أكتشفه الشاعر الكبير صلاح جاهين في الباب الذي كان يحرره بمجلة «صباح الخير» تحت عنوان «شاعر جديد يعجبني» وأحدثت قصائده رجّة ثقافية من نوع خاص، وعيّن شاعرا في الضمير المصري. أول صدمة في حياته كانت عام 1956 هي التي فجرّت الشعر، في عام 1956 تقدم عبد الرحمان الابنودي وأمل دنقل متطوعين لحمل السلاح والانخراط في المقاومة خلال حرب بورسعيد اثناء العدوان الثلاثي ورفض طلبهم بعد تدريب دام 15 يوما، لكن كما يقول: «كان لابد من ان نلجأ الى سلاح نبتدعه فاكتشفنا الشعر وربما كانت هذه البداية هي ما ربط قصيدتي بالتعبير عن أحوال الامة حتى اليوم. ضلع من أضلاع مثلث الكبار في شعر العامية لم يشهد شعر العامية تطورا أهم من تدفق ذلك الرهط من الشعر في مصر، ولابد من توضيح الفرق بين الشعر الشعبي وشعر العامية، الشعر الشعبي هو شعر له قواعده وأوزانه وفطاحله وهو متطور في كل البلدان وخاصة تونس. أما شعر العامية فهو شعر خاص، شعر عصري، متطور فيه العمودي والحرّ وفي غير العمودي والحرّ بيد أنه يختلف عن شعر الفصحى في كونه يتحدث لغة الناس، لغة كل يوم لكن بنغمات وأوزان وتركيبة شعرية حداثية وجدناه في فلسطين في اشعار «أبو صخر» مثلا وفي العراق في اشعار كاظم الكاطع وخاصة الشاعر العظيم مظفر النواب وهو يختلف عن الاغنية في مواضيعه وصياغته تطور ذلك الشعر في مصر على يد المؤسس الكبير بيرم التونسي الذي لما رجع من المنفى الى مصر طوّره ونشره وطوّعه للوطن وللشعب وحذا حذوه ما يسمى مثلث الكبار في شعر العامية وهو مثلت قاعدته «فؤاد حداد» الشاعر الكامل والمكتمل، العربي حتى النخاع والذي أعطى الكثير من الشعر والسنوات الطويلة في السجن صاحب «يوميات العمر الثاني» ومصر المصرية بتغني أليس هو القائل. بالفجر اللي ابتدا / بالفن والناس الحلوني / بالمعايش والصنايعية / يترجمان الحنين. ثم تلاه الشاعر والرسام والمسرحي والسيناريست العبقري صلاح جاهين صاحب الرباعيات التي اذكر منها: أنا كل يوم اسمع... فلان عذّبوه اسرح في بغداد والجزاير واتوه ما اعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب واعجب من اللي يطيق يعذب أخوه وصلاح جاهين هو الضلع الثاني للمثلث أما الضلع الثالث فهو عبد الرحمان الابنودي والى جانب المثلث يمكن ان نربعه بسيد حجاب ويأتي فؤاد قعود وسمير عبد الباقي وأحمد فؤاد نجم. ويعتز الابنودي بأنه سليل فؤاد حداد وصلاح جاهين لكن يختلف عنهما بالشفافية وهو شاعر كما يقول محمد القدوس في كتابه «عبد الرحمان الابنودي شاعر الناس»: «شاعر شعبي بحق يخطئ كما يخطئ جمهوره ويصيب كما يتمنى هذا الجمهور ان يصيب، يأخذ اللقمة من فم الناس ليمزجها في خلّ مرارته وعسل سخريته ودسم رؤيته ثم يعيدها اليهم مرة اخرى فيها من ذات الشاعر: نعم وهي اللقمة نفسها التي اعتادها الناس». الشاعر المتفرد والمتعدد منذ ديوانه الأول «الأرض والحيال» الذي صور في بداية الستينات (1964) تفرد الشاعر وغرس كلماته في مخيلة القراء والمستمعين وراح يجدد وهو يتناول كل ضروب المواضيع فيخصص ديوانا للعمال عنوانه «عماليات» (1968) ويغطس في التعبيرية والرمزية في «الزحمة»والبحث عن قصيدة مجددة ويرقى عام 1970 بديوانه الذي أعتبره أرقى ما وصل اليه الشعر الحداثي «الفصول» الذي جدّد فيه وارتقى الى منزلة شعراء مثل «روني شار» و «اليوت» وإزرا باوندوبا بلونيرودا. بعد النكسة يرحل الى السّد العالي بعد تجربة السجن ويكتب رائعته المجددة والجميلة «جوابات حراجي القطّ العامل في السدّ العالي الى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار» ديوان طريف على شكل رسائل متبادلة ينزف عرقا وحبا والما صور شفافة لعواطف الشعب ارتعد كل مرة أعيد قراءته، أبكى وأضحك، وخاصة عندما تتوجه فاطمة الى حراجي: «النبي يا حراجي ما تطول قلبك لأقطع بأسناني الحتة القاسية فيه» ويجيبها» «وحداني كعود الذرة في غيط الكمون». ويجدد في «أحمد سماعين» (1972) وهي ملحمة كاملة قصيدة طويلة كتبها في السجن عن سيرة مواطن مصري ثم يخرج عام 1973 بشعر «البورتريه» في «أنا والناس» الذي يرسم فيه «بورتريهات» أناس عرفهم بريشة الكلمة الحلوة والصادقة من أمه الى المناضل أبو غزالة الى خديجة التي كوت كتفه وهو صغير.. ثم يتحول الى السويس بعد حرب أكتوبر ويجمع شهادات الناس في «وجوه على الشط» الذي أذيع في إذاعة صوت العرب وطبع مسموعا وجدد من الجنريك الى الآلف ... وبينهما يجمع قصائده المتناثرة في «بعد التحية والسلام». وفي مدة إقامته بتونس وفي الحمامات أساسا يعترف في أحاديثه أن شخصين أثرا فيه شعريا بفتح ديوان العالم أمامه هما عبد الكريم قابوس وخالد النجار. فعلا كنت أترجم أشعاره يراجعنا بعدها المسرحي الكبير «روجي بلانشون» مدير المسرح الشعبي الفرنسي والمخرج الكبير وكثف اخرا له «روني شار» « وسان جون بيرس» و» بابلو نيرودا» «لوتريا مون» ورولان غسبار و «فرانسيس بونج» وفتح له خالد النجار، ذلك الشاعر والشخص الجميل، بوابات شعر «سان جان بيرس» ولما سافر الى لندن كان يرسل لي القصائد وخاصة رائعته «المدن» التي احتفظ باعتزاز بنسخة بخط يده ويشرح لي تجربته فأتى «صمت الجرس» أعلى ما كتب ولكن لم يجد الديوان استجابة لدى النقاد لأنه كوني. هنا توقفت متابعتي له وفرّقت بيننا الهجرة والنفي الطوعي في أوروبا... ثم تحرك شيطان الشعر عند الابنودي الذي قضى أكثر من خمس سنوات في السكوت وذلك بعد حرب الخليج الأولى برائعته «الاستعمار العربي» 1991 وأردفها برائعته «قصيدة بغداد 2004»: «قصيدتان تلخصان كل ما يمر به العالم العربي وبينهما دواوين أخرى مثل «الاحزان العادية» 1969 بعد ظاهرة «اليامنة» آه اليامنة! لما قرأتها على صفحات أخبار الأدب عدت من جديد للأبنودي اترجم وأعد كتابا باللغة الفرنسية وهي القصيدة التي قرأها في الحمامات وهي القصيدة التي تطلب من الشاعر يوميا. الأبنودي مدون السيرة الهلالية إنها الصدف، أو قل «خبث» الحياة بأن يولد «عبد الرحمان الأبنودي» في البلدة التي انطلق منها الهلاليون والتي احتفظت بأهم وأصدق رواية للسيرة الهلالية. أعطى الأبنودي من حياته 30 سنة (1967 1997 ) لجمعها، طبعها، بثها في الاذاعة نشر منها حوالي 70 شريطا، وها هي على أقراص الليزر وينشرها في 5 أجزاء نشرت في مجلد واحد في سلسلة مكتبة الاسرة ذلك المشروع الضخم الذي تشرف عليه سوزان مبارك. تحكي السيرة الهلالية زحف قبائل هلال وسليم ودريد والاتبج ورياح من هضبة نجد، الى اجربت سبع سنوات كما تقول السيرة الى تونس الخضراء منذ بدء الرحيل اقترابا من منتصف الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي ، الى ان استطاع «عبد المؤمن بن علي» إمام الموحدين وقائدهم الانتصار على تلك الظاهرة التاريخية بأكملها ، والقضاء على فلول القبائل الزاحفة، إما بمغربتها اي تحويها الى المواطنة المغاربية، وإما بمطاردتها الى جنوب نيل مصر مرّة اخرى. والاهتمام بالسيرة الهلالية للشاعر عبد الرحمان الأبنودي بدأ منذ الطفولة المبكرة، يقول الابنودي «فلقد تعلمت كواحد من آلاف أبناء القرى المحيطة بمدينة «قنا» أن اجلس على رمال الصحراء خلف مسجد سيدي عبد الرحيم في الاحتفال السنوي بمولده والذي كان يستمر على مدى الخمسة عشر يوما الأولى من شهر شعبان كل عام ، وكان الاحتفال بمولده كرنفالا حيّا حقيقيا تتجمع فيه كل صنوف الفنون المسرحية وأشكال مختلفة من ظواهر غناء المحترفين من «غوازي» الى «قوالين...» الى منشدين .. الى .. الى» (من مقدمة كتاب «السيرة الهلالية» سلسلة مكتبة الاسرة 2002). كان الابنودي يبحث عن السيرة في الكتب ويقارن مختلف روايتها حتى أن تحصل على «جهاز تسجيل قوي أحضره لي الراحل عبد الحليم حافظ بدأت تسجيل السيرة من الأفواه التي التقيتها الى منهجة قضية التسجيل نفسها، صححت مسارها في الطريق منها اتجهت خلف السيرة الذاتية الى كل مكان، من الدلتا الى جنوب مصر حتى السودان وحدود تشاد ثم بدأت رحلاتي الى تونس التى كنت أقيم فيها في ضيافة وزارة الثقافة وأعمل معية الأستاذ الكبير المرحوم الطاهر قيقةأحيانا أربعة أو ستة شهور متصلة، لتدارس الفوارق بين السيرتين : التونسية والمصرية أو فلنقل المغربية والشرقية، حيث أن الشاعر المصري الذي جمعت عنه مؤازر لحملة «بني هلال» موافق على اهدافها، أو يمكن ان نعتبره غزا تونس مع الغزاة، أما السيرة المغربية فإنها على العكس تعطي البطولة ل «دياب بن غانم»لأنه يمني ولأن «خليفة الزناتي» و «العلام» و»معبد ابن السلطان» ممثلو هجرات يمنية قديمة فإذا قتل «دياب» اليمني «خليفة» اليمني لا يلحق به أو بقبيلته عارا . وضممت كل النصوص التي توجد في جامعات ألمانيا وانقلترا، وعرفت الطرائق المختلفة لرواية السيرة ، ولا شك في ان تدفق هذا الالهام الشعبي أثار دهشتي وأوقفني عن الشعر طويلا وهناك فترة كاملة توقف شعري فيها وقد كان من عادتي أن انشر ديوانا كل عام» وهكذا استطاع عبد الرحمان الأبنودي الباحث أن يرتفع بتلك السيرة المهمشة الى مصاف الملحمات الكبرى ولنقل أنها في الكثير من الأحيان تضاهي «الالياذة» أو «الأوديسا» ... حتى أن وزارة الثقافة في مصر شيدت لملحمة الهلالية متحفا في قرية «أبنود» جنوبي مصر، يضم كل ما جمع الأبنودي طوال رحلته مكتوبا ومسموعا، الأمر الذي يحدث للمرة الأولى في مصر. وهناك جدل ونداء لليونسكو التي كلفت باحثين آخرين بالعمل على جمع الهلالية ولا بدّ من أن تسجل تلك الملحمة «موروثا عالميا... غير مادي» كما تسميه اليونسكو وأن يكرّم الأبنودي. طفرة في الغناء المصري تجربة عبدالرحمان الأبنودي في كتابة الأغنية فريدة ومتميزة بدأت في الستينات وغيرت ملامح الغناء في تلك الفترة وفرضت روح الريف المصري على أغنية الصالونات المستوحية من الاغنية التركية فنسطيع أن نقول بدون مغالاة أن الأبنودي ومن حذا حذوه في ما بعد قد مصروا نهائيا الأغنية المصرية، أكثر من 500 أغنية في كل الضروب ، فقد حول المرحوم «محمد رشدي» من «مغني افراح» الى صوت منفرد وذلك منذ سهرة و «هيبة» «و «عدوية و «بيتنا الصغير». وعلى القارئ أن يرجع الى هذه القائمة من الاغاني ويبحث عنها وعن مؤديها وسوف يكتشف أنها تلخص أروع ما كتب في الأغنية المصرية من نصوص وأجمل أغاني من غناها: «أنا كل ما أجول التوبة» «آه يا سمراني اللون» «لو بالعين أنظر بيدي» «شباكي على النيل عينيك» العنب» «زفة البرتقان» ومازالت أغانيه الوطنية التي كتبها قبل النكسة وبعدها مستقرة في الضمير الوطني والقومي ، ومنها «موّال النهار»، «المسيح»، «أحلف بسماها وترابها» «ابنك يقول لك يا بطل» ، ولا يستطيع المتتبع أن ينسى أغنية «بيوت السويس» التي صارت بشهرة محمد حمام عبر العالم العربي وكانت آخر أغنية وطنية كتبها هي «صباح الخير يا سينا» التي غناها الراحل «عبدالحليم حافظ» بعد عودة سيناء لمصر عام 1974. والى جانب أغانيه الشهيرة «الهوى هوايا» (ولها قصة في كتابتها تكتب يوما ما) «أحضان الحبايب» لعبد الحليم حافظ ، ولوردة كتب «قبل النهارده» و «طبعا حبايب» فانه كذلك طعم مسار نجاة الصغيرة بأغنيتين»عيون القلب» ومسير الشمس وأغنيات لنادية مصطفى وميادة الحناوي ومدحت صالح ومحمد ثروت وهاني شاكر وهو كذلك غير مسار شادية من الأغاني الخفيفة الى تلك الأغاني الجميلة مثل آه ياسمراني اللون» وقولوا لعين الشمس «. لكن عبد الرحمان الأبنودي رفض الكتابة لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ولذلك حكايات أخرى. غير أنه يملك ملف أغنية أخرى تحدث عنها لما تناول دوره في السينماوالتلفزيون. السينما والتلفزيون ... والمسلسلات عندما عرضت رائعة حسين كمال في مهرجان قرطاج السينمائي 1970 شدّني صوت خارج الكادر (صوت أوف ) نسمع فيه رجلا يقرأ الرسائل التي كان يفتحها شكري سرحان وقلت وراء هذا الصوت لا بدّ أن يكون صوت شخص عبقري... عشر سنوات بعد أن عرفت أن ذلك الصوت هو صوت عبد الرحمان الأبنودي ... وهذه أول علاقة للأبنودي بالسينما التي دخلها كما يقول على وجه الصدفة ... غير أنه تألق في الفيلم الثاني لحسين كمال «شيء من الخوف» الذي عرضناه في جميع نوادي السينما وأصبح من كلاسيكيات محبي السنما في تونس وهو فليم أعاد كتابة السيناريو له عبدالرحمان الأبنودي وكتب أغانيه التي غنتها شادية ولحنها كمال الطويل... كما كتب أغنيات فليم المرحوم رضوان الكاشف «عرق البلح» الذي أضفى عليه مسحته الصعيدية وحول فيه الممثلة الممتازة شريهان الرابعة من الصعيد. وتألق كذلك عندما حول مسرحية توفيق الحكيم «أغنية الموت» الذي مثلته فاتن حمامة وجعل من ديكور الفرقة الوحيدة في الفيلم الى نسخة من بيت أمه فاطمة قنديل الأبنود. وتألق كذلك في كتابة حوار فيلم «الطوق والأسورة» الذي اقتبسه خيري بشارة عن قصة يحيى الطاهر عبد الله رفيق درب الأبنودي غير أن هذا الأخير صدم بعدم أداء الممثلين حواراته. أما التلفزيون فهو مساحته لألقاء قصائده كما كانت الاذاعة وسيطا بين الأبنودي والجمهور حيث قدم 365 نصف ساعة للسيرة الهلالية ... وقد اقتبست زوجته الحالية نهال كمال حلقات ركنه الجميل الذي نشره أسبوعيا في الأهرام «أيامي الحلوة» والذي صدر في ثلاثة كتب ، وهي تجربة رائعة للأبنودي في ممارسة نثر جديد تحولت الى 30 حلقة في رمضان، قدم فيها بالصورة والحكاية والشعر حياة الصعيد والناس والنيل وتأثير عبد الرحمان الأبنودي في التلفزيون اتى من تجربته كأول من كتب المقدمات الغنائية للمسلسلات التلفزيونية التي برع فيها سيد حجاب حيث كتب مقدمة مسلسل «هارب من الايام» لنور الدمرداش وثلاثية «الضحية» و «الرحيل» و «النصيب» لابراهيم الصحبي وبعدها توالت الأعمال وأشهرها «أبو العلا البشري»، «النديم»، «ذئاب الجبل»، «مسألة مبدأ»، «خالتي صفية والدير»، «حرافيش» نجيب محفوظ و «حارة المحروسة» التي غناها محمد رشدي لكن كتابة الأغنية للسينما والتلفزيون ارتقت الى مرحلة عالية في فيلم «النمرالأسود» لأحمد زكي وأغنية «عمر المختار» اخراج مصطفى العقاد وفيلم «أوقات فراغ» التي غناها مروان خوري وفيلم «عرق البلح» لرضوان الكاشف وأغنية «ساعات ساعات» لفيلم «ليلة بكى فيها الضمير» والتي شدت بها صباح لكن القمة كانت في كتابة كل أغاني فيلم «البريء» اخراج المرحوم عاطف الطيب . وعلاوة على كتابة المسرح ومسرح العرائس فالابنودي يقدم برامج تلفزيونية وأشهرها «صباح الخير يا خال» وبرنامجه الحالي «قول يا خال» الذي يقدمه ضمن فترة «صباح الخير يا مصر» مما جعل المرحوم نجيب محفوظ يناديه «يا خال» هذا هو الأبنودي ، شاعر الناس ونابش في الموروث الثقافي والسياسي والمحرض ووعي العرب... الذي بقصائده «الاستعمار العربي» و»بغداد» وقصيدته الأخيرة الممنوعة... «أنا المصري» التي قرأها توا بعد انتهاء حرب جنوب لبنان والتي كان يطلبها «حسن نصرالله» للاستماع.