(1) تشاء الصدف أن تنطلق مهرجاناتنا الثقافية لهذا الصيف على أعقاب منازلات كأس العالم لكرة القدم المنتظمة فعالياتها في جمهورية جنوب افريقيا، وهو المهرجان الكوني الذي يرى فيه البعض أسمى التعابير الانسانية بفضل ما يوفره من فرص للمطارحة الديالكتيكية حول خطط اللعب واللاعبين والانتصار والهزيمة، وبفضل ما يتيحه من مشاهدة قد ترقى أحيانا إلى مستوى الفن الكامل الذي تتصل فيه الحركة بالجسم في تناغم وانسجام فيتحقق في لحظات قليلة ذلك الحلم الأولمبي الذي قدمه الاغريق القدامى على كل الفنون حتى على الشعر والمسرح والغناء. لست متأكدا من أن مهرجاناتنا الثقافية ستكون قادرة ولو على قدر قليل ممّا وفره مهرجان جنوب افريقيا الكروي من متعة وتأثر لكن ما لا يراودني فيه شك هو أن كل أو جلّ ما وقع إدراجه ضمن برامج مهرجاناتنا الثقافية ستكون له ذات ردّة الفعل التي أثارتها مقابلات كرة القدم وستمضي مدارج مسارحنا صاخبة هارجة مارجة حتى نهاية العرض الثقافي. (2) إنّ للمهرجانات الثقافية تاريخا في بلادنا انطلق مع بداية الستينات ثم عمّ تراب الجمهورية ليصبح اليوم ثابتا من ثوابت العمل الثقافي عندنا. وما من شكّ في أن المهرجان كصيغة لتحفيز الانتاج الثقافي وإبلاغه للجماهير وفي تنشيط المدن وملء الفراغات في حياة الناس كانت فاعلة ومجدية الى حدّ والى زمن. لكن الواضح اليوم أن هذه الصيغة قد تآكلت واهترأت بفعل الاستسهال والارتجال والتعميم فلم يبق للمهرجان غير وظيفة الترفيه البسيط الذي لا أثر له ولا تأثير بل وصار المهرجان الثقافي أحيانا من الأسماء الأضداد لأن ما يقدم فيه لا يتجه إلى مساءلة الفكر ولا يبحث عن عمق الوجدان ولا يفتح بابا للاطلاع أو المعرفة. (3) لنأخذ لنا مثلا مهرجان قرطاج ذا العراقة والامتياز ولننظر قليلا في برنامجه لهذه الصائفة ماذا عساه يضيف على ما قدمه في الصائفة الماضية؟ كيف تم اختيار الفنانين التونسيين الذين سيحظون بالصعود على ركح المسرح التاريخي وعلى أي أساس؟ ولماذا تم «جلب» هذا الفنان الأجنبي دون غيره من فناني دول العالم صديقها وشقيقها؟ لا أحد قادر على الاجابة ما إذا كان البرنامج المقدّم هو نتاج لاختيار شخصي أم هو خلاصة مداولات مجموعة تعمل ضمن هيكل متصل، وما إذا كانت الاختيارات تكرّس توجها يقضي بتتويج المجتهدين من مبدعينا واللامعين من الأجانب القادرين على تقديم الاضافة فكرا وإحساسا لجماهير الثقافة في بلادنا. (4) إننا نطرح هذه الأسئلة مركزين عمدا على مهرجان قرطاج لاعتبار قوة رمزيته ضمن المهرجانات ولما يحظى به من دعم وعناية للتدليل على الضرورة الملحة التي فرضت نفسها منذ سنوات في الحقيقة على منطق السعي الى تطوير العمل والعودة به الى أهدافه الأصلية المتمثلة في تقديم انتاجات تغذي الفكر وتعمق الحسّ وتسمو بالخيال وتوسع دائرة المعرفة، وهي كلها أهداف لا تنفي الترفيه ولا الاستمتاع وإنما تعطي لكل فئة من جماهيرنا رغبة الاطلاع على المستحدث في الشعر والمستجد في الموسيقى والمستنبط في الرقص والمسرح، ثم تمكين كل فئة من التعلق بهذه الفنون وحبها. إن الجماهير الثقافية ليست كتلة واحدة ولعله من الخطإ الكبير أن نعتبرها كذلك ونعاملها كمجموعة زبائن يستهويهم البحث عن الحدث أكثر مما تحدوهم رغبة رصد أسبابه وفهم مسبباته، يشدهم ضياء «النجوم» أكثر مما يجذبهم نور العاملين بجدّ وتواضع. لنعد لمهرجان قرطاج. هل كان لا بدّ من برمجة هذه المغنية اللبنانية «لأن الجماهير تحبها» على حدّ تعبير مدير الدورة، أو ذاك الفنان التونسي لنجاحه في مصر ولبنان أو العودة الىمسرحي قديم لتجديد «نوبة» شكلت أكبر كارثة على موسيقانا الوطنية التي سقطت منذ ذلك الجمع الرهيب من «الزكارة» و«المزاودية» في مسرح قرطاج الى المستوى الصفر وصارت مرادفا «لتخميرة» عفوية تنفي الجهد وتحاصر الذوق وتسطح الحس؟ (5) لقد ساهمت المهرجانات في دمقرطة الثقافة وإشاعة حب الفنون وبعث الحاجة إليها في نفوس الجماهير. لكن هذه المهرجانات بقيت عند حدّ طموحها الأول شكلا ومضمونا. فتراجع مردودها لاسيما أمام قوّة الانتشار المذهل لوسائل الاتصال من إذاعة وتلفزة وأنترنات التي هي الطرف الفاعل الأول في وضع برامج المهرجانات بعد أن حدّدت ذائقة جماهيرها بكل حرية بل وبلا مبالاة. إن مهرجاناتنا أصبحت تلك الشجرة التي تحجب الغابة، غابة الأسئلة الواجب طرحها أبدا وكل يوم حول واقع عملنا الثقافي وضرورة تقويم نتائجه وتجديد أهدافه. حين يتطور بلد ما ويجمع الامكانات المادية الكفيلة بضمان حريته فإنما على الحقل الثقافي أولا وأخيرا أن يظهر مشاريعه السياسية الكبرى ويبرزها ويحققها ولا ريب في أن ما أنجزته تونس اليوم من تقدم مبهر في كل ميدان يفرض على الثقافة والقائمين عليها والعاملين بها أن يعملوا بجدّ ومسؤولية حتى تكون خير مرآة تعكس طموحنا السياسي والحضاري الكبيرين. لقد حان الوقت لأن نقف ضد السهولة والاستسهال والمعاد والمعتاد حتى لا تكون مهرجاناتنا رجعا لصدى مقابلات كرة قدم من الأقسام السفلى.