(1) تكرست منذ سنوات و ضمن مهرجاناتنا الصيفية المقامة في البلد من شماله إلى جنوبه ومن ساحله إلى سباسبه ثقافة الاستهلاك السطحي والرخيص... برامج مهرجانات تتناسل من بعضها البعض، أشباه مطربين موتورين بين ركح مهرجان ومنصة قاعة أفراح، غناء شرقي ومحلي هابط، وآخر غربي مفلس، سماسرة مهرجانات، متعهدي حفلات، مضاربات مالية يتألق في أدائها فرسان «الشوبيز» وتفوح روائحها العطنة في الجرائد، مواطنون مصحوبين بمحامين وعدول تنفيذ يشتكون مديري المهرجانات، شركات فنية في اتصال حميم بالمندوبيات الثقافية، كباريهات مقنعة تحت يافطة النشاط الثقافي المهرجاني، شطيح و رديح، ربوخات تتواصل من سطوح المنازل في الأحياء إلى مدارج المسارح، أموال عمومية مهدورة و مستقرة في جيوب مخملية لفنانات الكليبات، جماهير كروية اعتادت على إنهاء الحفل برمي الناس بزجاجات الماء البلاستيكية من على المدارج... تلك هي الصورة المتكررة في مهرجاناتنا الصيفية التي بعثت في الأصل من أجل توزيع الثقافة و الترفيه بشكل عادل ومسؤول على الجماهير. (2) وبالمقابل فإن المهرجانات الصيفية العريقة - مثل قرطاج والحمامات وطبرقةوقابس و صفاقس – التي تتمتع بسيادة ثقافية رمزية قد فقدت منذ سنين فاعليتها وبريقها، بل فقدت حتى مرجعياتها التي أسست من أجلها، وباتت رائدة في تكريس هذه البرمجة الاستهلاكية الموزعة بين جماهير عريضة، وأخرى نخبوية ضيقة تدعي إلتزامها بالثقافة العالية والجودة الفنية... وأمام هذه الصورة الاستهلاكية الكاسحة والطاغية على المشهد الثقافي الصيفي، تتراجع بالمقابل المساحات الثقافية الجدية خارج قانون المهرجانات الصيفية استجابة لتلك العقلية الخاملة التي لا ترى في الصيف فصلا صالحا للثقافة و الفكر والفن الجدي الراقي، ولا نعلم بالمقابل كيف تم تأسيس هذه الاستجابة للخمول والاستهلاك السريع، كما لا نعلم من يوطئ قانون هذه الرزنامة الثقافية على مدى مدار السنة، ويعلم جميع المتابعين للنشاط الثقافي في تونس أن تظاهراتنا الثقافية ليست إلا مواعيد موسمية تعيد بدورها ما دأبت عليه البرمجة الثقافية الرسمية من أساليب مألوفة وطرق معبدة دون إضافة حقيقية أو إبتكار ملحوظ، في حين تظل الثقافة كنشاط اجتماعي حيوي بعيدة عن الفضاءات التفاعلية الإجتماعية، ومفرغة من محتوياتها ومجردة من حضور المثقفين الفاعلين الذين اضطروا للاستقالة بعد أن تم تهميشهم بشكل غير مباشر. (3) ورغم هذه الصورة القاتمة للنشاط الثقافي الصيفي الذي تكرسه المهرجانات الصيفية في تونس، فإن نشاطا ثقافيا صيفيا آخر قد ولى و انتهى دون رجعة. و كان وجوده بمثابة بقعة ضوء كان بالإمكان توسيعها بإشراف الدولة خاصة وأن بلادنا قادمة على رهانات واستحقاقات ومواجهات وتحديات لابد من إعداد العدة لها من خلال الاستعداد الثقافي والمعرفي خاصة و أن فكرة «مجتمع المعرفة» كحالة للرقي الإجتماعي والاقتصادي لا يمكن تحقيقها باهدار الطاقات البشرية والمواطنية والإهمال الثقافي والرمزي... قلت إن نشاطا ثقافيا صيفيا قد ولى وانتهى دون رجعة وهو المتمثل في «الجامعات الصيفية الثقافية» التي تم تجريبها في السبعينات، وأذكر في هذا الشأن تجربتين لمثل هاتين الجامعتين: الجامعة الصيفية في طبرقة، والجامعة الصيفية بقابس. (4) والجامعتان هما عبارة عن ملتقيات فكرية وثقافية عالية الطراز تجمع جمهور المثقفين والمتعلمين حول سلسلة من المحاضرات في الثقافة والاقتصاد والظواهر الإجتماعية والتاريخ والموسيقى والفنون المشهدية والثقافات الشعبية والشعر – نعم الشعر ما أدراك ما الشعر - والجماليات والفنون الإسلامية والإستشراق... نعم إنها جامعات مفتوحة للجميع يتم فيها اللقاء بين الجمهور وكبار الكتاب و المفكرين المرموقين، وأذكر في هذا السياق أن جامعة طبرقة التابعة لمهرجان طبرقة قد رفعت شعار «لن أستحم كغبي» Je ne veux pas bronzer idiot قد نظمت لقاءات فكرية فريدة مع الشاعر الفرنسي الكبير لويس أرغون Louis Aragon وعالم الإجتماع جون دوفينيو Jean Duvignaud ومؤسس سوسيولوجيا فنون الفيديو فراد فوراستFred Forest والشاعر والمغني الكبير ليو فيري Léo Ferré... أما الجامعة الصيفية في قابس التي بعثتها الغرفة الفتية الإقتصادية بقابس فقد فتحت محاضرات مفتوحة قدمها روجي غارودي Roger Garaudy والطاهر بن جلون وسمير أمين ومحمد الطالبي ومحمد الزفزاف و الطاهر قيقة والناصر بن الشيخ والشاذلي العياري وإيريك رولو Eric Rouleau والعروسي المطوي وغيرهم من المتطوعين في هذه الجامعة الصيفية. (5) و إذا كانت تونس الآن و في الصيف تحديدا وجهة للسياحة فلماذا لا تكون وجهة للسياحة الثقافية الجدية؟ بمعنى آخر ما الذي يمنع سلطات الإشراف في المدن الشاطئية من بعث مثل هذه الجامعات الصيفية الثقافية الحرة، وأن تتكاتف وزارة الثقافة مع وزارة السياحة مع وزارة التعليم العالي لبعث هذه الجامعات الحرة تتم فيها دعوة خيرة المثقفين والكتاب في العالم إلى جانب النخبة الثقافية والأكاديمية في تونس، تحقيقا لفكرة «مجتمع المعرفة»؟... لماذا لا نحقق مفهوما؟جديدا هو مفهوم السياحية المعرفية، على شاكلة السياحة الصحية والسياحة الإستشفائية، والسياحة التجميلية؟ فكرة الجامعة الصيفية كما تم تنظيمها في طبرقة قامت على فكرة طريفة هي العودة للكتّاب، بمعنى يجلس المحاضر ويتحلق حوله الحاضرون. ...... رحم الله الناقد المسرحي المصري الكبير فاروق عبد القادر.