أسدل الستار في نهاية الأسبوع الماضي عن اعتماد المخطط الثاني عشر للتنمية بعد مصادقة مجلسي النواب والمستشارين على مضامينه الاستراتيجية وأهدافه التنموية بكل ما تحتويه من تحديات وبكل ما تطرحه من رهانات في النواحي التنموية العامة وانعكاساتها الاجتماعية بالخصوص. وقد تميزت مداولات المجلسين بالحوار الصريح والبنّاء الذي دار بين النواب والمستشارين من جهة والوزير الاول السيد محمد الغنوشي الذي جاءت كلمته أثناء تقديم المخطط وردوده على تدخلات المشاركين في النقاشات واضحة وضعت النقاط على الحروف في العديد من المسائل ذات العلاقة بالتوجهات المستقبلية للمرحلة القادمة وما تطرحه من تحديات وما تتطلبه من اصلاحات وما تفرضه بالتالي من تحديد للأولويات ليتمكن الاقتصاد التونسي من تحقيق أفضل نسب للنمو في تفاعل مع المستجدات العالمية والتطورات التي تفرضها تداعيات الازمة العالمية. وفي هذا الاطار شدد الوزير الاول «على أن رفع التحديات وتحقيق الأهداف المرسومة بالنسبة الى الخماسية القادمة يتطلب الالتزام بجملة من الضوابط تتعلق بالمحافظة على الموارد الطبيعية وتثمينها والاقتصاد في الطاقة والنهوض بالطاقات المتجددة والمحافظة على الموازنات المالية للبلاد وتلازم البعدين الاقتصادي والاجتماعي». وفي نفس السياق أبرز الوزير الاول في رده على تدخلات المستشارين بمناسبة عرض المخطط على مجلس المستشارين «مسؤولية مختلف الاطراف (الدولة والبنوك والمؤسسات الاقتصادية) في المحافظة على هذه التوازنات»، وقال في هذا الصدد «إن الدولة مطالبة بحصر عجز الميزانية في حدود 2.7 بالمائة مع المحافظة على قيمة الدعم في حدود 1500 مليون دينار واقرار ما يتطلبه ذلك من تعديلات، تأخذ في الاعتبار المقدرة الشرائية للمواطن وخاصة من ذوي الدخل المحدود». احكام نفقات الدعم ان الحديث عن سياسة الدعم في تونس يقودنا بالضرورة الى التذكير بالاعتبارات الاستراتيجية لهذه المنظومة الاقتصادية المتكاملة والتي تتداخل فيها الاعتبارات الاجتماعية والتوازنات المالية والمخططات المستقبلية المرتبطة بأولويات كل مرحلة من المراحل. وقد وفقت تونس في الحفاظ على كل توازناتها وخصصت ما قيمته 1500 مليون دينار لدعم حاجيات الطبقات الاجتماعية الضعيفة وصاحبة الدخل المحدود من خلال الحفاظ على أسعار معقولة ومقبولة للمواد الغذائية الاساسيةمثل الخبز والعجين ومشتقاته والسميد والزيوت النباتية والمحروقات والنقل العمومي والورق الخاص بالكراس المدرسي. وتهدف تدخلات الدولة الى الضغط على أسعار هذه المواد بحيث لا تتأثر الشرائح الاجتماعية ذات الدخل المحدود وصاحبة الاستهلاك الكبير لهذه المواد في نفس الوقت. وقد انعكست هذه السياسة الاجتماعيةعلى التوازنات العامة للدولة من حيث علاقتها بالعجز الحاصل في الميزانيةومن حيث تأثيرها على الابعاد الاجتماعية لهذه الفئات في علاقة بالمحيط الذي تعيش فيه، وكما أكّدت المقاربات الدولية للأسعار «فإن تونس تبقى على مستوى أسعار المواد الاساسية المدعومة وحتى غير المدعومة من أرخص الوجهات في المنطقة المتوسطية»، وذلك دون شك بفضل الدعم الذي يكلف الدولة أموالا كبيرة ومبالغ مرتفعة جدا تكون في بعض الأحيان على حساب خيارات وأولويات أخرى لا تقل أهمية. الدعم.. خيار ثابت في المقاربة الاجتماعية رغم صعوبة الظرف الاقتصادي العالمي الذي تعاقبت عليه تطورات شملت أسعار المحروقات في المرة الأولى مما أدى إلى أزمة في أسعار النفط كانت مخلفاتها قاسية جدا على عديد دول العالم لتتعدى في ما بعد إلى النظام المالي العالمي لتبدأ أزمة جديدة هي الأزمة المالية العالمية وما خلفته من تداعيات اجتماعية. ورغم كل الصعوبات استطاعت تونس أن تحافظ على سياستها الاجتماعية التي تميزت بالحفاظ على مبدإ الدعم كمقوم من مقومات المقاربة بصفة عامة بما فيه الدعم على المواد الاستهلاكية أو ما اصطلح على تسميته بصندوق التعويض الذي يتدخل ليعدل أسعار بعض المواد الاستهلاكية الأساسية مثل الخبز والسميد والعجين والزيت النباتي والمحروقات والورق المدرسي وهي مواد لم تتوقف تونس عن دعمها رغم أزمة أسعار النفط وتأثيراتها على الساحة الدولية (العديد من دول المنطقة، المغاربية والمتوسطية والدول العربية تراجعت جزئيا أو كليا عن دعم مثل هذه المواد) بل هناك حتى من أعاد أسعار المحروقات إلى حقيقتها أو كاد. هذه السياسة التونسية أكدت مرة أخرى ان المقاربة الاجتماعية في الخطط التنموية هي مقاربة ثابتة وان تلازم الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية هو من العناصر الأساسية التي تميز هذه المقاربة. الاصغاء إلى صوت الشعب ان المقاربة الاجتماعية التونسية تحظى بتأييد شعبي تجسد في تجارب الفئات الاجتماعية مع الخيارات التي ترسمها الدولة وسبب ذلك التأييد ينبع من ان الخيارات الكبرى يشارك فيها الشعب مباشرة أو من خلال نوابه في البرلمان أو في مجلس المستشارين الذين يعبرون عن آرائه ويقدمون مقترحاته من أجل المساهمة وبوعي كامل في الخيارات الكبرى بما فيها خيار الابقاء على سقف الدعم والتدخلات من قبل صندوق التعويض للحفاظ على التوازنات الاجتماعية ولرعاية أوضاع الطبقات الشعبية التي تستهلك أكثر من غيرها المواد المدعومة من قبل الدولة. ومثل كل مرة فإن تصريحات الوزير الأول أمام مجلس النواب بمناسبة النظر في المخطط الثاني عشر للتنمية وعندما قال «ستعمل الحكومة على تحسين مردودية الجباية باعتماد برنامج متكامل لتحديث منظومة الجباية وتعصير خدماتها إضافة إلى احكام نفقات الدعم بهدف حصر حجمها الجملي في حدود 1500 مليون دينار في السنة» أثارت نقاش النواب والمستشارين في ما بعد الذين أكدوا مثلهم مثل العديد من الخبراء والفنيين في المجال بأنه لا يجب الترفيع في هذا المبلغ وأن الجهود يجب أن تنصرف أيضا نحو عناصر أخرى لا تقل أهمية في العملية التنموية بل هي أصبحت أساسية نظرا الى دورها في الابقاء على التوازنات الاجتماعية والى أهميتها في المنظومة الاقتصادية. من هذه العناصر ما يلي: التنمية الجهوية لأهميتها في الخيارات الاستراتيجية الكبرى ولمعاضدتها المباشرة لجهود التنمية الشاملة وللمكانة التي وضعها لها البرنامج الخماسي 2009 2014. التشغيل ودوره في الحفاظ على كرامة الانسان. إذ يحتل التشغيل في البرنامج الخماسي الجديد دائما المكانة الأولى وخاصة تشغيل أصحاب الشهائد الذين يتزايد عددهم بحكم التركيبة السكانية في تونس وتطوراتها الديموغرافية. مزيد احداث المؤسسات التي تستقطب المزيد من رؤوس الأموال في تفاعل دائم ومباشر مع المحيط الخارجي مما يتطلب قدرة أكبر وامكانيات أوسع على تطوير الصادرات واقتحام الأسواق الجديدة. ويمكن لهذه المؤسسات أن تتنوع لتشمل المؤسسات الصناعية ومؤسسات الخدمات بالاضافة الى الرهان على التكنولوجيات الجديدة وما توفره من فرص استثمارية أكبر ومن قدرات تشغيلية أوسع يمكنها أن تستوعب أعدادا أكبر خاصة من خريجي الجامعات. تعديل الأسعار كل هذه التحدّيات الجديدة لم تجعل تونس تفكر في التراجع عن الدعم الذي يبقى من خياراتها الاستراتيجية ومن أركان مقاربتها الاجتماعية.. ولكن أمام كل ما تقدم فإن الأولويات لبناء تونس جديدة وحديثة تتغير بسرعة وفي تفاعل مع المحيط لتصبح البلاد قادرة على التألق والتميز من خلال ما تضعه من خطط ومقاربات ومن خلال ما تثبته الوقائع والمؤشرات وما تقر به المنظمات والمؤسسات والشخصيات العالمية من صواب تلك الخطط والتوجهات والسياسات. وبناء على ذلك فإن البلاد تصغي دائما الى الواقع وتتفاعل مع المستجدات وتتأقلم مع المتغيرات التي تواكبها وتتابعها بكل يقظة وتبصر مستمعة الى الأصداء التي تتردد في أوساط النواب والمستشارين والمطالبات التي أطلقها بعضهم في النقاشات العامة الداعية الى عدم الترفيع في سقف المبالغ المخصصة لدعم المواد الاستهلاكية مقترحين التفاعل مع تغير الأولويات التي أصبح يفرضها الواقع من حيث ضرورة الاهتمام أكثر بمفاعلات التنمية الجهوية وبالتشغيل وخاصة حاملي الشهائد العليا الذين يزداد عددهم كل مرة وبالاستثمارات العامة للدولة في البنية الأساسية من أجل مزيد إحداث مواطن الرزق في الجهات بالخصوص لاستيعاب آلاف الشباب وتمكينهم من الشغل اللائق ومن المسكن المحترم حفاظا على التوازن العام للأسرة التونسية خلية المجتمع الأولى. ولعل في تغيير هذه الأولويات الاقرار بحجم التحديات الجديدة التي تواجه كل المجتمعات ومن بينها المجتمع التونسي الذي وكعادته كان يقظا ومتبصرا واستبق التطورات وأدرك أن التوازنات لا يمكن أن تتحقق إلا بالقليل من التضحيات خاصة إذا كانت التضحيات لن تمس بالخيارات الجوهرية الكبرى ولن تؤثر على الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل بل سوف تتطلب فقط البعض من التعديلات التي لا بد منها لتحقيق تنمية متوازنة ولتمكين الاقتصاد من آليات أفضل لتحقيق نتائج أفضل. وإذا كان الأمر كذلك فإن التفكير في اتخاذ بعض القرارات (مثل تعديل بعض الأسعار وخاصة أسعار بعض المواد الاستهلاكية التي تستفيد منها كل شرائح المجتمع وليس الطبقات ضعيفة الدخل فقط على غرار المحروقات) يبقى أمرا ضروريا للحفاظ على التوازنات التنموية العامة. وإذا تم التوصل الى هذه الحقيقة، فإن حقيقة أخرى لا يجب أن نغفل عنها وهي المتعلقة بهاجس الدولة في التوفيق بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على معادلة تلازم هذه الأبعاد بحيث يتم تمكين الطبقات محدودة الدخل من آليات مواجهة تداعيات مثل هذه القرارات وكل المؤشرات تدل على أن الدولة ستوفق مرة أخرى في الحفاظ على هذه المعادلة رغم صعوبة الأوضاع هذه المرة.