لا تستطيع هذه الأيام أن تشيح بنظرك عن مقابلات كرة القدم التي يعرضها التلفزيون، ولا أن تصُمَّ أذنيك عن التعليقات التي تواكبها. فأنت، مهما قاومت، مورّط في هذا الحفل الجماعيّ، مكره على الإسهام فيه، تمارس، بالرّغم منك، بضعةً من طقوسه العجيبة. ثمّة، في هذا الحفل الكبير، شيء ما يخاطب وجدان جميع البشر، ثمّة أمرٌ ما لا أدرك كنهه يجعلهم يتوحّدون على اختلافهم، ويجتمعون على افتراقهم. هل الأمر يرتدّ إلى روح المنافسة تذكي نار الحماسة في نفوس المتفرّجين؟ لكنّ الألعاب، كلّ الألعاب، تقوم على المنافسة، وعلى إذكاء نار الحماسة في نفوس الحاضرين. هل الأمر يعود إلى كون هذه اللعبة لعبة جماعيّة؟ لكنّ هناك عددا كبيرا من الألعاب الجماعيّة لم يحظ بما حظيت به هذه اللّعبة من شيوع وانتشار. أم الأمر لا يعدو أن يكون موصولا برشاقة اللعبة وجمال أدائها؟ لكن هناك من الألعاب ماهو أرشق من لعبة كرة القدم وأجمل اداء ولكنّه مع ذلك لا يغري النّاس ولا يغويهم. إذن ما الذي يجعل من لعبة كرة القدم لعبةً تسحر كلّ هذا العدد من الناس؟ ذاك في نظري سرّ من أسرار هذه الكرة وعجيبة من عجائبها الكثيرة. لكن، مهما اختلفنا في أسباب افتنان الجميع بلعبة القدم فنحن نتّفق على أنّ هذه اللعبة قد تمكّنت من تحقيق ماعجزت عنه الفلسفات والآداب والفنون والإيديولوجيات منذ أقدم العصور أعني توحيد شعوب الأرض حول « هدف «واحد، وغاية مُوَحَدَة، ناسفة بذلك الحدود بين الثقافات والحضارات. فحفل الكرة هو حفل كلّ الكرة الأرضية بغضّ النظر عن اللّون والجنس والدّين. إذا أردنا أن نقارن بين لعبة الكتابة ولعبة الكرة وجدنا أنهما لعبتان مختلفتان في الوسائل مؤتلفتان في النتائج... الكاتب وحيدٌ أمام ورقته، يكتب نصّه منعزلا عن الناس. أمّا لاعب كرة القدم فواحد ضمن مجموعة من اللاّعبين، ينجز «عرضه» على إيقاع هتاف المتفرّجين وصخبهم. لا دليل للكاتب في ليل الكتابة ، فهو يمضي وحده في سبل الإبداع ، لا أَحَدَ يوجّهه أو يقود خطاه. أمّا في لعبة كرة القدم فثمّة «ممرّن» وأعوان له كثيرون يوجّهون اللاعبين ويعلمّونهم طرق المناورة والمداورة واللعب ... لا بطولة في الكتابة، ولا وجود لمتوّج أخير يعتلي المصطبة و يفوز بالكأس. ففي الكتابة لا نظفر ببطل مفرد واحد.... الكتابة تقوم على الإقرار بالتعدّد، وعلى الإقرار بالاختلاف داخل هذا التعدّد... ثمّة وجوه اختلاف كثيرة بين لعبتي الكتابة والكرة لكنّ هدف اللعبتين يظلّ واحدا وهو إمتاع «المتقبل» سواء أكان قارئا أم متفرّجا. صحيح أنّ متعة الكتابة «مرجأة» ومتعة اللعبة «آنيٌّة» لكن الغاية تظلّ في كلتا الحالتين متمثلة في منح المتفرّج لحظات من السعادة والبهجة في عالم مافتئ يبخل بهما علينا. من قال إنّنا نحيا زمن الرواية؟ ومن قال إنّنا نحيا زمن الشعر؟ ومن قال إنّنا نحيا زمن الصّورة؟ لقد أخطأ كلّ هؤلاء فنحن نحيا، في الواقع ، زمن كرة القدم..