كأس العالم لأقل من 17 سنة: الفيفا يحدد عدد مقاعد الاتحادات القارية    علي معلول: لاعبو الأهلي يمتلكون الخبرة الكافية من أجل العودة بنتيجة إيجابية    عاجل/ متابعة: هذه التهم الموجهة لبرهان بسيس والزغيدي والعقوبة التي تنتظرهما..!!    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    الشركة التونسية للبنك تتماسك وترفع الودائع الى 10.3 مليار دينار    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    بطاقة ايداع بالسجن في حق الزغيدي وبسيس    احتجاجا على عدم انتدابهم... عدد من عمال الحضائر يدخلون في اعتصام مفتوح    لاعب الأهلي المصري :''هموت نفسي أمام الترجي لتحقيق أول لقب أفريقي ''    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    منوبة: تفكيك وفاق إجرامي للتحيّل والابتزاز وانتحال صفة    قتيل وجرحى في حادث مرور مروع بسليانة..    بنزرت: توفير الظروف الملائمة لتامين نجاح موسم الحج    القلعة الخصبة: انطلاق فعاليات الدورة 25 لشهر التراث    الدورة ال3 لمهرجان جربة تونس للسينما العربية من 20 إلى 25 جوان 2024    في هذه المنطقة: كلغ لحم ''العلّوش'' ب30 دينار    وزير الفلاحة: قطع المياه ضرورة قصوى    وزارة الصناعة: إحداث لجنة لجرد وتقييم العقارات تحت تصرّف شركة ال'' ستاغ ''    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    الأكثر سخونة منذ 2000 عام.. صيف 2023 سجل رقماً قياسياً    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    بورصة تونس .. مؤشر «توننداكس» يبدأ الأسبوع على انخفاض طفيف    البنوك تستوعب 2.7 مليار دينار من الكاش المتداول    بنزرت: إيداع 7 اشخاص بالسجن في قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    27 ألف متفرج لنهائي الأبطال بين الترجي و الأهلي    تصفيات مونديال 2026: حكم جنوب افريقي لمبارة تونس وغينيا الاستوائية    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    غوارديولا يحذر من أن المهمة لم تنته بعد مع اقتراب فريقه من حصد لقب البطولة    اخر مستجدات قضية سنية الدهماني    صفاقس: ينهي حياة ابن أخيه بطعنات غائرة    ضجة في الجزائر: العثور على شاب في مستودع جاره بعد اختفائه عام 1996    ارتفاع عدد قتلى جنود الإحتلال إلى 621    في يومها العالمي.. الشروع في اعداد استراتيجية وطنية جديدة للنهوض بالأسرة    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    الرائد الرسمي: صدور تنقيح القانون المتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الأطفال    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    الرئيس الايراني.. دماء أطفال غزة ستغير النظام العالمي الراهن    "حماس" ترد على تصريحات نتنياهو حول "الاستسلام وإلقاء السلاح"    ماذا في لقاء وزير السياحة بوفد من المستثمرين من الكويت؟    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    الكاف: حريق اندلع بمعمل الطماطم ماالقصة ؟    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رياضة أم طقوس؟
كرة القدم: بقلم: مارك أوجي ترجمة: المنتصر الحملي
نشر في الشعب يوم 30 - 01 - 2010

» لا شيء ينقص أنصار الكرة المستديرة، لا الطّقس (المقابلة) ينقصهم ولا الكنيسة (الفريق) ولا الإدارة البابويّة (الفيفا) ولا الكهّان (المحلّلون الرّياضيون). فهل بإمكان عالم الأعراق أن يهمل دراسة هذه الدّيانة؟ «
ألا يعود تهيّب العلوم الإنسانيّة من الطّقوس الحديثة الكبرى ككرة القدم إلى واقعة أنّ أولئك الّذين بإمكانهم معاينتها وتحليلها هم ملتصقون بها بشكل كبير؟ هل بوسعنا مثلا أن نهوى كرة القدم وأن نشاهد التليفزيون وأن ننتبه في نفس الوقت إلى حدث أنّه للمرّة الأولى في تاريخ البشريّة في مسافات منتظمة وأوقات محدّدة يتسمّر ملايين الأشخاص أمام هيكلهم المنزليّ ليشاهدوا ويشاركوا بأتمّ معنى الكلمة في الاحتفال بالطّقس ذاته؟ بالمقابل، من المحتمل جدّا لو أنّ هورونيي (سكّان هورون Huron وهي إحدى مدن مقاطعة فريسنو، كاليفورنيا) أو فُرْس القرن العشرين، الّذين يبدو أنّ العلم الحديث يدعونا إلى تعيين أصلهم خارج حدود النّظام الشّمسيّ، يمتهنون مهنة علم الأعراق فسيكونون بمجرّد نزولهم على الأرض حسّاسين تجاه انتظام وحدّة حركات الجمهور الّتي تحدث مساء الأربعاء أو بعد زوال يوم الأحد في فرنسا.
سيلاحظون بسهولة أنّ هذه التّجمّعات الشّعبيّة يرافقها بشكل متناقض تكثيف للعبادة المنزليّة، وسيكتشفون بكلّ اهتمام أنّ المسرحيّة المأساويّة الّتي يحتفل بها في فضاء مركزيّ ثلاثة وعشرون كاهنا وبعض الممثّلين الصّامتين أمام جمهور من المؤمنين متفاوتي العدد ولكنّهم قد يبلغون الخمسين ألف شخصا هي مسرحيّة يتابعها بنفس الإيمان في المنزل ملايين من الممارسين لشعائرهم الغارقين جدّا في تفاصيل طقوسهم إلى حدّ أنّهم دون أن يتلقّوا الإذن بالكلام يقفون ويهتفون ويهدرون ويجلسون ثانية على نفس إيقاع الجمهور المحتشد في الملعب. علماء الجغرافيا الهورونيون أو الفرس، الّذين كانوا سيجرون معاينات أكثر انتباها ودراسات أكثر مهارة عن طريق تجميع معطيات التّاريخ والدّيمغرافيا والاستكشاف عن بعد، كانوا سيصوغون فرضيّة وجود » فضاء اجتماعيّ متغيّر ذي أبعاد متعدّدة« لتحليل الواقعة المتمثّلة في أنّ البنية عبادة مركزيّة- عبادات فرعيّة يتغيّر مداها حسب تغيّر المعالم الزّمكانيّة: فالمواجهة الّتي وقعت في شهر أكتوبر بين مدينة نوجون لو روترو Nogent-le-Rotrou ومدينة فيتراي Vitré لم يواكبها أيّ رصد مرحليّ تلفزيّ ذي مقصد منزليّ بينما في شهر جوان بمناسبة اللّقاء الّذي جمع بين الأرجنتين والبرازيل ساهمت شعوب الأرض قاطبة في هذا الطّقس الكبير. أمّا علماء الأعراق الّذين يرون انّ هذه المعطيات السّوسيولوجيّة العيانيّة تبقى مستعصية عن السّيطرة، فسيقدّمون رغم ذلك بداية للجواب على الأسئلة الّتي لم يطرحها بشكل مباشر علماء الجغرافيا: فبفضل ثقة الشّعوب فيهم وبفضل استخدامهم لمفهومي الطّوطميّة والتّجزيئيّة سيبرزون أنّ الجماعة إذا صحّ القول هي من تعيد بنفسها تمثّل نفسها ولنفسها في حفلة الملعب. ولكنّ المجموعات المتقابلة، كما سيوضّحون، ليسوا كذلك إلاّ في مستوى معيّن من تحديد الهويّة: فبالإمكان أن يجدوا أنفسهم متصالحين مع مستوى أعلى ضدّ منافس مشدود هو نفسه إلى هذا المنطق التّجزيئيّ: تحديد الذّات تعارض. وتتطابق لعبة الألوان أو لعبة عرض التّمثيل الحيوانيّ قليلا أو كثيرا مع هذه اللّعبة المزدوجة الّتي تكون قابلة للقراءة أيضا في التّنظيم المؤسّساتي الصّارم للبطولات وكذلك أكثر للكؤوس الجهويّة والوطنيّة والقارّيّة والعالميّة. وفي النّهاية المؤقّتة لتحقيقات هي بدورها جزئيّة، سيتردّد علماء الأعراق في صياغة فرضيّتهم المركزيّة التّالية: يمارس سكّان الأرض ديانة فريدة من نوعها وليس لها آلهة. لن يبقى لهم سوى قراءة ديركهايم وكتابه »الأشكال الأوّليّة للحياة الدّينيّة« ليقبلوا بألاّ وجود لفرق جوهريّ »بين تجمّع مسيحيين للاحتفال بالتّواريخ الرّئيسيّة لحياة المسيح وبين تجمّع يهود للاحتفال بذكرى الخروج من مصر أو صدور القوانين العشر وبين اجتماع مواطنين للاحتفال بذكرى تأسيس ميثاق أخلاقيّ جديد أو بعض الأحداث الكبرى في الحياة الوطنيّة«، ولن يبقى لهم سوى أن يندهشوا من أنّ البشر بمقدورهم أن يظهروا بالتّناوب ذوي فكر ثاقب جدّا مرّة وعميان البصيرة جدّا مرّة أخرى فيما يتعلّق بطبيعة اغترابهم. »فيما يخصّ الوقائع الاجتماعيّة، مازالت عقليتنا عقلية بدائيين«، هكذا كتب أيضا ديركهايم، مشيرا بذلك إلى وهم البشر بأنّهم أسياد على تلك الوقائع. ولكنّ الهورونيين والفرس سيجدون صعوبة كبرى في الحفاظ على حيادهم، في أيّامنا هذه، وحسب معرفتنا لم يباشر سكّان الفضاء بعد علم أعراق الأرض. فليس غريبا إذن أن يكون المؤرّخون هم أوّل من باشر بطريقة نظاميّة دراسة الرّياضة في أوروبّا: فهم بالتّعريف يتركون بينهم وبينها مسافة، من خلال ملاحظة نشأتها وتحليل تحوّلاتها الأولى والانهماك بذلك على تفكيك رموز معناها. من هذه الزّاوية، هم مجهّزون بأسلحة أفضل من أسلحة ديركهايم الّذي عاب عليه لووي Lowie أنّه لم يصف ضمن النّظام العشيريّ والطّوطميّ الأستراليّ لا الشّكل الاجتماعيّ الأكثر بساطة ولا الشّكل الدّينيّ الأكثر أوّليّة. ولأنّهم علماء اجتماع الماضي القريب، فهم بالتّأكيد لا يحدّدون نشأة الرّياضة عموما بل الرّياضة الجماهيريّة في الأشكال الأصليّة الّتي اتّخذتها أواخر القرن التّاسع عشر. وكما يحدث في كثير من الأحيان، يمكن لفضولهم التّاريخيّ أن يكون على صلة باهتمامات اللّحظة وشواغلها. تشهد منشورات كثيرة على الأهمّيّة الّتي تولى للرّياضة الجماهيريّة الأكثر شعبيّة أي كرة القدم، ولكنّ عددا مهمّا منها يشهد على المتعة المعَدَّة سلفا تقريبا الّتي يمكن أن تشعر بها عقول جيّدة (نذكر هنا بيار لوي راي أو برنار بيفو) أو تشهد على الشّغف العليم تقريبا الّذي يحمله لها المختصّون في وظائف شبيهة بها أو موازية لها أكثر ممّا تشهد على وجود ملاحظة متأنّية وموضوعيّة ومنهجيّة للوقائع. لم يصبح للأنتروبولوجيا الدّينيّة وجود علميّ إلاّ في اليوم الّذي كفّت فيه عن أن تكون بين قبضتي المبشِّرين أو غيرهم من محترفي الدّين: ولقد حان الوقت لكي يتخلّص علم اجتماع الرّياضة من قبضة مجلّة الفريق L'Equipe. ومع شيء من الاحترام الّذي نكنّه لوزراء العبادة والمعلّقين الرّياضيين وحكّام كرة القدم نقرّ بأنّهم جزء من موضوع الدّراسة وبأنّه ليس بوسعهم بصفاتهم تلك أن يكونوا الملاحظين الحقيقيين لها. نحن رغم ذلك بمنأى عن الفكرة الّتي تعتبر أنّ حرارة التّجربة الخاصّة أو الانفعال الهارب المرتبط بذكرى شخصيّة ليس بوسعهما أن يساعدا على تخيّل ثمّ فهم دوافع الفاعليّة الرّمزيّة. ولكنّنا نرى أنّه سواء تعلّق الأمر بإيمان أو بمتعة فليس بمقدور هذه الأخيرة إلاّ بصعوبة من دون شكّ أن تفهم انبهار الآخرين الّذين لم تحرّك مشاعرهم أبدا رائحة البخور أو طيران الأرغنات الكبيرة بعد الإنجيل الأخير أو الأخضر الفظّ لمعشَّب في اللّيل أو الإشاعة الهادرة تحت سماء حديقة الرّياضة. ليس لدى طوني ماسّون أيّ شكّ في هذا الصّدد. فتأريخه الرّائع لرابطة كرة القدم يهتمّ بالمجتمع الأنجليزيّ من 1863 حتّى 1915. إنّها بالتّأكيد الدّراسة الأكثر جدّيّة والأكثر توثيقا للتّاريخ الاجتماعيّ للرّياضة الّتي أنجزت خلال السّنوات العشرين الأخيرة. ولكنّه بلا شكّ ما كان ليستطيع أن يسيطر بهذا الإتقان على موضوعه لو لم تحرّكه، علاوة على التّعاطف العميق مع مناصري هذه الرّياضة من لاعبين ومتفرّجين، معرفة دقيقة وذكيّة باللّعبة. إنّ الفصل الّذي يخصّصه طوني ماسّون لهذه اللّعبة وبصفة أخصّ الصّفحات الّتي يحلّل فيها المرور التّدريجيّ من تصوّر فرديّ حيث تهيمن المراوغة إلى أسلوب قائم على لعب التّمريرات وعلى المرور من الأجنحة ووسط الميدان، مع استحضار هيمنة أستون فيلاّ وساندرلند في سنوات 1890، ومانشستر يونايتد ونيوكاسّل يونايتد من 1900 حتّى 1910، والصّور الّتي يرسمها لأشهر اللاّعبين في تلك الحقبة مثل ج. أو. سميث أو أرشي هنتر أو ستيف بلومر أو أرنست نيدم( كان سريعا، له قدرة كبيرة على التّحمّل، يحسن الانزلاقات وبارعا في تمرير الكرة...) أو بيلي مارديث، كلّ تلك الصّفحات إذن تظهره لنا عليما بموضوعه وسعيدا بتناوله. وكان لا بدّ له أيضا من النّباهة ومن الصّبر ليضبط على التّوالي جميع جوانب بحث تاريخيّ واسع في موضوع واحد من أجله تمّ استغلال الوثائق الأكثر تنوّعا. تمثّل كرة القدم حدثا اجتماعيّا شاملا لأنّها تعني، إلاّ فيما ندر، جميع عناصر المجتمع ولأنّها قابلة للنّظر من زوايا نظر مختلفة . فهي مزدوجة في حدّ ذاتها، ممارسة وفرجة. هي ممارسة منتشرة بطريقة كافية لتكون ظاهرة جماهيريّة. وهي فرجة جدّ جذّابة إلى الحدّ الّذي يجعل من عدد المشاهدين لها يتزايد طوال مجمل الفترة المدروسة ويجعل من أيّام الأسبوع العاديّة تحت تأثيرها مسبّقا أو لاحقا من خلال الأحاديث والرّهانات وقراءة البيانات الكرويّة . إلى جانب الظّاهرة في حدّ ذاتها تنضاف إشكاليّة طبقيّة، تكون في بعض الأحيان جليّة تماما وإن كانت تعبّر عن نفسها انطلاقا من وجهات نظر جدّ متناقضة: هل ينبغي أن تبقى الرّياضة حكرا على نخبة أم أن يمارسها السّواد الأعظم ( النّقاش المتعلّق بالاحتراف يتقاطع مع هذا السّؤال)؟ هل كرة القدم كممارسة وكفرجة »أفيون جديد للشّعوب« أم مناسبة لتحصيل وعي طبقيّ؟ هل للرّياضة وخصوصا منها الجماعيّة قيمة خلاّقة في زمن اتّفق فيه رجال السّياسة عشيّة 1914 على اعتباره زمنا خطيرا أم أنّها تنزع مسبّقا نحو إضعاف قتاليّة المواطن؟ فالحرب ليست لعبة. الدّراسة الدّقيقة واليقظة ستنجح في إبراز أنّ الظّاهرة الاجتماعيّة لكرة القدم (وهي في هذا أيضا قريبة جدّا من الظّواهر الدّينيّة) لا تترك نفسها أسيرة لأيّ تعريف اختزاليّ. فلا من ناحية أصولها ولا من ناحية خاصّياتها المتنوّعة يمكن تعريف كرة القدم بأنّها مجرّد وسيلة من وسائل تطويع البعض للآخر. ذلك أنّ لنوادي كرة القدم أصولا متنوّعة. فالبعض منها خلال العشريّة الممتدّة من 1850 حتّى 1860 تأسّس على أيدي شباب ينتمون إلى طبقات متوسّطة أو عليا كانوا يريدون مواصلة ممارسة الرّياضة الّتي أحبّوها في المدرسة. كما أنّ الكنائس كانت وراء ظهور عدد معيّن منها باعتبار أنّ وزراء العبادة الأكثر شبابا كانوا يؤمنون بمزاياها الأخلاقيّة والجسديّة. فريقان من أعرق الفرق الأنجليزيّة المحترفة وهما أستون فيلاّ وبلتون ووندررز لهما مثل هذا المنشأ: إنّ انقطاع هذا الرّباط الدّينيّ يتزامن عموما مع تخصّص الفريق في كرة القدم لوحدها. ولكنّ الحانات أيضا لعبت دورا، أكثر أهمّيّة، في نشأة العديد من الفرق وفي تطوّرها. ذلك أنّ الحانة هي فضاء للالتقاء وللتّسلية يمكن للنّاس أن يغيّروا فيها ملابسهم قبل المقابلة وأن يتعشّوا فيها بعدها، وغالبا ما كان مديروها قادرين على إعارتهم ميدانا قريبا للتّدرّب أو لإجراء المباراة. أخيرا، نشأت نواد كثيرة على أساس مهنيّ أو من قبل عمّال مؤسّسة خاصّة. وينبغي هنا أيضا أن نميّز بينها حسب ما إذا كانت تدار كلّيّا أو جزئيّا أو لا تدار تماما من قبل العمّال أنفسهم. من ذلك مثلا أنّ فريق أرسنال الشّهير قد أسّسته مجموعة من عمّال شركة وولفيتش أرسنال ولم يكونوا في البداية يتلقّون أيّة مساعدة، في حين أنّ أبويّة صاحب مصنع الفولاذ في تاميس كانت وراء تأسيس فريق واست هام يونايتد. يبقى لنا أن نشير إلى أنّه طوال نهاية القرن التّاسع عشر وحتّى الحرب العالميّة الأولى ومع توسّع الاحتراف (الّذي كان يقوم بانتداباته من بين العمّال مقترحا عليهم نوعا من التّرقية الاجتماعيّة) ظلّت موجودة كرة قدم هاوية جيّدة حتّى أنّ بعض الكليشيهات تضعها في مقابل الأولى فتقابل بين الذّكاء والقوة وبين النّخبة والشّعب. ورغم فشلهم المتكرّر أمام المحترفين، كان عدد كبير من اللاّعبين الهواة يُستَدعون إلى الفريق الوطنيّ الأنجليزيّ حتّى سنة 1900 وكان قائد الفريق دائما من الهواة، حتّى وإن لم يتمّ استدعاء سوى لاعب واحد منهم سنة 1895 بعد أن تعرّض الهواة إلى هزيمة عريضة (9/0 في نوتينغهام) في مواجهة المحترفين. ويبدو أنّ التّفريق بين الصّنفين قد تفاقم إلى حدّ أنّه في تلك المناسبة النّموذجيّة لا الاستثنائية اضطرّ قائد الفريق إلى السّفر والعشاء منفصلا عن زملائه المحترفين الّذين لم يتعرّف عليهم إلاّ في الميدان. رجل الأخلاق والعمّال كتاب طوني ماسّون يعجّ بالطّرائف والملاحظات والمعلومات المستمدّة من مصادر متنوّعة وكلّها تبرز خطّ الاتّصال الاجتماعيّ المشترك الّذي يشقّ جموع اللاعبين والمتفرّجين: فهذا التّقابل سيجد تعبيرا خصوصيّا في زمن الحرب حين ستجري التّايمز مقارنة بين فشل حملات الانتدابات في ملاعب كرة القدم وحضورها الباهر في أوساط الكريكيت والرّقبي والمجداف. لقد كان للخطاب الأخلاقيّ دوما في هذه المناسبات استتباعات اجتماعيّة: ذلك أنّ التّنديد بمناخ التّسيّب الأخلاقيّ الّذي يحيط بالرّياضة المحترفة وأساسا كرة القدم يعني معارضتها ضمنيّا وأحيانا صراحة بمثل أعلى هي الهواية الجيّدة والرّشيقة والنّزيهة والرّفيعة بفرديتها والمميّزة للطّبقات المتوسّطة والعليا. إنّ تاريخ كرة القدم الاجتماعيّ يحمل بصمة هذا الخلاف وهذا التّضادّ الافتراضيّ. فمسألة الاحتراف والهواية، أي مسألة إيتيقا اللّعبة (اللّعب للّعب أم اللّعب للفوز) وقيمتها الأخلاقيّة يستعيدهما باستمرار مسؤولون عن الحياة الاجتماعيّة
والرّياضيّة في المجادلات الّتي تثيرها مختلف القضايا المطروحة بشكل دوريّ (قضايا الإدمان على الكحول، والرّهانات، وقواعد اللّعبة، وتصرّفات الجماهير، ومستقبل اللاّعبين المهنيّ). غير أنّه بإمكاننا أن نسوق في هذا السّياق ملاحظتين: أولاهما أنّ تاريخ بدايات كرة القدم في أنجلترا يبقى في جوهره تاريخ سيطرة متنامية للرّياضة المحترفة. ولم تكبح الحرب إلاّ قليلا من تطوّرها. وبعد محاولات عديدة غير مثمرة، تشكّلت نقابة اللاّعبين المحترفين نهائيّا سنة1907، وستتفاوض مع رابطة كرة القدم حول الكثير من الاتّفاقيات الماليّة والمهنيّة. وثانيتهما أنّ الحضور المتنامي لكرة القدم يمكن أن يؤوّل بشكل متناقض تماما. فيبدو انّ العمّال المؤهّلين والمشغَّلين بصفة منتظمة صاروا يمثّلون تدريجيّا جزء متزايد الأهمّيّة من الجمهور، دون أن ينقص ذلك من الحضور الغالب لعدد المشاهدين المنحدرين من الطّبقات الوسطى. لهذا السّبب، ليس الاستنتاج السّوسيولوجيّ أو السّياسيّ بديهيّا، فظلّ طوني ماسّون، بحكمة دون شكّ، ثابتا في اعتباراته الحذرة: فهو لا ينفي أنّ المشاركة في المباريات أو مشاهدتها قد ساهمتا في تعزيز وعي طبقيّ، ولكنّه يلاحظ أيضا أنّ هذا الوعي قد يتعرّض إلى الإضعاف من خلال تماهي الكثير من العمّال مع مصالح فريق جهويّ ومع مصيره: فسنة 1915 لم تكن هناك مدينة في أنجلترا بل قرية واحدة ليس لها فريق كرة قدم. أفيون أم مثير؟ الاثنان بلا شكّ، تماما كما نرى في التّاريخ، بشكل متزامن أو متعاقب، الحركات الدّينيّة تساهم في قمع أو في تحرير أولئك الّذين ينضوون تحتها. من المؤكّد على أيّة حال أنّ متعهّدي الرّياضة ليسوا أبدا من أنصار الفنّ للفنّ. فبالنّسبة إلى نبيل ليبراليّ مثل بيار دي كوبرتان، كان المثال الأنجليزيّ يبرهن قبل كلّ شيء على أنّ إيتيقا قائمة في جزء كبير منها على الرّياضة والرّوح الرّياضيّة وبوسعها أن تشكّل نخبة جديدة في فرنسا مماثلة لتلك الّتي تكوّنت في المعاهد العموميّة من اجتماع أبناء النّبلاء والبرجوازيين، وقابلة لأن تحافظ على مثل أعلى أرستقراطيّ في ديمقراطيّة قد انتصبت الآن نهائيّا. إلى هذه الإثباتات الّتي ساقها ريشار هولت يمكن إضافة بيانات أوجان فيبار الّذي يلاحظ من جهة أولى المسخرة في استعارة إيديولوجيي الرّياضة الفرنسيين في حوالي سنة 1890 المثل العليا الّتي صاغها أنجليز سنة 1860 ليميّزوا ابتكارات يعود تاريخها إلى سنة 1830. ويلاحظ من جهة أخرى »التّماثل بين اللّغة الّتي يستعملها أنصار الرّياضة وتلك الّتي يستعملها أنصار الاستعمار«، ويلاحظ أخيرا الطّابع الاجتماعيّ الضّعيف نسبيّا للحركة الرّياضيّة في فرنسا قبل الحرب الكبرى: فقد كان المثل الأعلى للمغامرة والتّحرّر والبطولة ول » مسيحيّة العضلات« التّي كان يميل نحو التّماثل معها المثل الأعلى لحياة رياضيّة ، هو مَثَلُ أبناء البرجوازيّة. لا بدّ من فهمه ب» اعتباره تفاعلا من صبيان ذوي تغذية جيّدة أكثر منه تمرّدا من شعب مضطهَد «. مع ذلك، يدعو ريشار هولت إلى إظهار الفروق الدّقيقة في هذا الاستنتاج. فلاحظ أنّه سنة 1914، كان أغلب لاعبي كرة القدم والرّياضيين والمتفرّجين من الطّبقات المتوسّطة أو الشّعبيّة (هذا الإثبات لا ينطبق بطبيعة الحال على جميع الرّياضات). وعلاوة على ذلك، لم تصمد المثل الأنجليزيّة العليا أمام جماهير المتفرّجين وأمام التّغييرات الهامّة الّتي طرأت على المشهد الرّياضيّ. في هذا الصّدد، ولكن في فترة متأخّرة نسبيّا، سيصبح الدّرب الّذي قطعه لادوما »المنبثق من الشّعب« والبطل الأولمبيّ وذائع الصّيت في »كلّ باريس« والمتّهم بالاحترافيّة نموذجا حقيقيّا. لم تكن كرة القدم ورياضة الرّقبي كلّيّا حتّى حوالي سنة 1920، كما يلاحظ هولت، جزء من الحياة العمّاليّة ولكنّهما لم تعودا البتّة وسيلة من وسائل المثاليّة البرجوازيّة:»كانتا تمثّلان مصدرا للفرجة عند الجماهير الشّعبيّة وللرّبح المادّيّ، على عكس الدّور الّذي أريد لهما أن تلعباه في الأصل والمتمثّل في النموّ الشّخصيّ والمصلحة العامّة«. في هذه النّقطة التحقت فرنسا بأنجلترا وريشار هولت بطوني ماسّون الّذي كتب:» كانت جمعيّة كرة القدم ملأ لأوقات الفراغ، شيئا للاستمتاع حتّى وإن لم تتحقّق تماما المزايا الأخلاقيّة الّتي تمنّى الدّعاة من الطّبقة المتوسّطة أن تأتي بها اللّعبة«. ألا ينبغي لنا في الأخير أن نتساءل إن لم يكن البعد المشهديّ للرّياضة تعبيرا عن تناقضها وأساسا لطبيعتها الدّينيّة؟ من الواضح جدّا أنّ المثل الأعلى النّخبويّ الّذي صيغ في أيتون Eton وطُبّق في حملات الجيش الهنديّ لم يكن بوسعه أن يعني مجموع المشاهدين الخمسين ألفا الّذين كانوا قد حضروا بعدُ سنة 1897 مباراة الدّور النّهائيّ لكأس أنجلترا . لذلك نرى في هذا الصّدد وجهات النّظر تنقلب والآراء تتغيّر. بعد حرب بوورز Boers بشكل أكثر دقّة، استنكر المفكّرون الإمبرياليون (وعلى رأسهم روديار كيبلين/ في مقاله سنة 1902 المنشور في التّايمز) بالأحرى في الرّياضة المشهد علامة على الانحطاط والعجز في مواجهة تهديدات ألمانيا وضرورات الإنتاجيّة الصّناعيّة. لقد آمن منظّرو الرّياضة على الدّوام بفضائل فرديّة، بتربية للأجسام، ولكنّ نجاح الرّياضة باعتبارها مشهدا فرجويّا جعلهم يواجهون حقائق سوسيولوجيّة ذات أهمّيّة مختلفة تماما، يواجهون بُعدا لم يحدسوا ظهوره ولم يشكّوا في وجوده. من هنا ربّما جاءت تلك التّعاليق شبه المعجَبة شبه القلقة، الّتي نعثر عليها في بعض الأعداد من الصّحف، على الانسيابيّة الهادئة نسبيّا لجماهير غفيرة تفرّقت من الملاعب في نهاية المباريات. إنّها قوّة موجَّهة، ولكنّها قوّة مع ذلك وأحيانا واعية بذاتها.الوعي بالميول المشتركة من المؤكّد أنّ الفريق يطالب مشجّعيه بالمساندة وأنّ هؤلاء يتماهون معه في أغلب الأحيان، ففي التّسعينات كانت انجلترا تشهد تلك المواجهات الممدوحة والموزونة بين مناصري الفريقين الّتي جعلها التّليفزيون أليفة لدى الغرباء Allez, allez, allez, Saint-Etienne»0على منوال السّلام الملائكيّ Ave Maria: كان هذا بالأمس On a gagné! : إنّه العود الأبديّ لباري سان جرمان أو أولمبيك مرسيليا أو لونس. الإشارة الطّوطميّة والحميّة الدّينيّة والتّماهي المجازيّ مع المجموعة لم تفقد ولم تكسب شيئا من قوّتها منذ نهائيّ كأس أنجلترا سنة 1891 ففي تلك الفترة أصلا، كان حمل اللاّفتات الإعلانيّة الموشّحة بألوان النّادي وترنيم أغاني التّحدّي قبل انطلاق المباراة أمرين شائعين:»لقد فزنا من قبل بالكأس مرّات عديدة«، هكذا كان يغنّي مردّدين أنصار بلاك بيرن متوجّهين إلى أنصار نوتس كاونتي الّذين كانوا بدورهم يردّون عليهم بالشّتائم والسّخريات. بيد أنّ هذا »الاستلاب« نسبيّ تماما. فالألحان الجماعيّة المتّفقة على الأقلّ على تنظيم الفرجة (الّتي تظلّ نواتها هي المباراة نفسها ) تتفاهم عموما حول التّناوب فيما بينها ولا تغطّي الواحدة منها على الأخرى مطلقا. سأجازف بهذا السّرّ الرّاهن أكثر: هناك على ما يبدو لي نوع من الدّعابة في موقف الكثير من المشجّعين وبدرجة أقلّ المتفرّجين أثناء المباريات. قد أكون حسّاسا جدّا تجاه تقلّب آراء الجمهور الباريسيّ الّذي نعرف عنه أنّه ينقلب على المفضّلين لديه حين يخيّبون آماله، ولكنّ هذا الموقف العاطفيّ والهزليّ لا يمرّ دون أن يذكّرني أحيانا بمزيج الانتباه والانفعال والطّلاقة الّذي بدا لي أنّه يأتي على رأس تنفيذ طقوس معيّنة في أفريقيا. في الجوهر، يوجد نوع من التواطؤ الّذي يوحّد بين المتفرّجين. وهو تواطؤ يجعل بلا شكّ أهمّيّة ظواهر التّمثّل الأخرى نسبيّة ويسوّغ لطوني ماسّون بأن يوعز لنا بأنّه إن كانت كرة القدم استطاعت أن تساهم في نزع فتيل التّوتّر الطّبقيّ إلاّ أنّها قد ساهمت مع ذلك في نشر الوعي بين العمّال بأنّ لهم ميولا ومصالح مشتركة غريبة كلّ الغرابة عن الطّبقات المتوسّطة. في هذه النّقطة تحديدا نشعر بنقص في المعلومات الّتي يمكن الاعتماد عليها كلّيّا، فنحن لا نعرف بما يكفي من الدّقّة من كان يرتاد الملاعب ومن يرتادها الآن، ومع ذلك، من الممكن صياغة الفرضيّة التّالية وهي أنّ الجمهور الفرنسيّ على الأقلّ قد تنوّع أكثر منذ الحرب العالميّة الثّانية. فتواتر المقابلات وثمن المقاعد يمنع من الاعتقاد بأنّ كرة القدم بإمكانها أن تكون وسيلة لتسلية العمّال وحدهم، وهو ما لم يحدث فعلا أبدا، وفي هذا المجال تلعب الاعتبارات الجهويّة بالطّبع دورا مهمّا لونس ليست باريس لكنّ أهمّيّة التّليفزيون تُنَسِّب بأيّة طريقة وبشكل ساحق أهمّيّة الاختلافات الجهويّة: لقد أصبحت فرجةُ كرة القدم أمرا متاحا للجميع ولم يعد بوسعها أن تظهر على أنّها موجَّهة لمجموعة خاصّة تجد فيها، حسب وجهات النّظر، صورة لتماسكها أو مرآة لاغترابها. هنا أيضا، تشتغل كرة القدم مثل ظاهرة دينيّة. ويمكننا في الختام أن نبرز أنّ العلاقة بين الرّياضة الجماهيريّة والدّين لا تدخل في باب الاستعارة، فلأنّ وظائفها الاجتماعيّة قابلة للتّأويل، حسب الظّروف، بطريقة متنوّعة وحتّى متناقضة فهذا يقرّبها هي ذاتها من الظّاهرة الدّينيّة. ولكن هناك المزيد. فقد حاول روبار كولز منذ أكثر من عشرين سنة، في مقال موجز ولامع، أن يبيّن كيف أنّ التّحليل الدّيركهايمي للمواقف والممارسات الدّينيّة (وهو من هذا المنظور أكثر أهمّيّة من المضمون الإيديولوجيّ) يطبَّق على واقع كرة القدم الاجتماعيّ. فاجتماع عدّة آلاف من الأشخاص يشعرون بنفس الأحاسيس ويعبّرون عنها بالإيقاع والأهازيج كان كما بدا له يخلق الظّروف الملائمة لتسامي النّفسيّة الفرديّة، لإدراك حسّيّ للمقدَّس مماثل لذاك الّذي استحضره ديركهايم فيما يخصّ طقوس الكفّارة الأستراليّة. فيما عدى ذلك، كان كولز في الآن نفسه يوسّع في الإشكاليّة الدّيركهاميّة ويضيّق كما يبدو لي من حقلها الإجرائيّ. ذلك أنّ مسألة مغزى الطّقوس بالنّسبة إلى الفاعلين، وبالتّالي مسألة محتواها أو ظروف تأديتها لم تكن تبدو له غير مهمّة. ولكنّه يعيب على مؤلّفين مثل مالينوفسكي أو بارسنس أنّهم يريدون في هذا الصّدد صياغة قائمات كونيّة ونهائيّة من الوقائع الخاصّة بإقامة الطّقوس (الموت السّابق لأوانه والكوارث الطّبيعيّة والحصاد الهزيل بالنّسبة إلى الطّقوس الأساسيّة، والحظّ السّعيد أو السيئ بشكل عامّ). كان يبدو له أنّ كرة القدم ينبغي أن تُدرَج بين هذه الوقائع، ولكن لابدّ من جهة أن توضع في علاقة بالتّحوّلات الاجتماعيّة المأساويّة للقرن التّاسع عشر الأنجليزيّ، ومن جهة أخرى أن تُعنى في المقام الأوّل بالشّباب المعجبين الّذين باجتماعهم على نفس المدرّجات يبرهنون بأهازيجهم وصيحاتهم وحركاتهم على تعصّب يعكس ضعف أملهم وضعف الإمكانيات الواقعيّة لتحقيق اكتمالهم. كان كولز يهتمّ بالمِلل أكثر من اهتمامه بالكنيسة، لكنّ دراسة كرة القدم باعتبارها ظاهرة دينيّة قد تكون في الآن نفسه أقلّ وأكثر طموحا. نحن بكلّ تأكيد نعيش في عصر يتشكّل فيه، في الغرب على الأقلّ، معنى الوجود تجريبيّا ويوميّا دون أن تمثّل مسألة المآل الأخير هاجسا ملحّا وثابتا في الوعي الفرديّ.كما أنّ مسألة المعنى تتفوّق على مسألة الخلاص: يكفي أن يذكّر البابا الكاثوليك بأنّه يجب عليهم الإيمان بوجود اللّه لكي ينادي البعض بالقداسة والبعض الآخر بالارتكاسة. يوميّا، يستمدّ أغلب الغربيين قوّة الحياة ممّا يمكن أن أسمّيه بطيب خاطر القدسيّة اللاّئكيّة. فقد اعتقدت الثّورة الفرنسيّة (الّتي أثارت تجربتها الدّينيّة ديركهايم) أنّه كان لا بدّ من وجود الآلهة لتكون ديانة ما. لكنّ التّاريخ يثبت لنا تدريجيّا أنّ ذلك غير صحيح بتاتا: فالزّمن الغربيّ ينتظم (بل يمكننا القول يتهيكل) حول أنشطة تكفي لإضفاء معنى على حياة النّاس منذ اللّحظة الّتي تعطي فيها شكلا محسوسا واجتماعيّا للانتظارات الفرديّة الّتي تساهم هي بنفسها في خلقها. ليست كرة القدم بمفردها في هذا الشّأن، وسيكون من مهامّ علم أعراق حقيقيّ للعالم الغربيّ أن يعيّن مكانتها مقارنة بغيرها من المؤسّسات . ولكن سيكون من التّسرّع ومن التّقصير الاستخفاف بما تقدّمه التّلفزة من رهانات سباق الخيل ولعبة اللّوتو، ذلك أنّ طقسا يعادل آخر ولم يكن هدف الطّقوس أبدا تحرير
البشر. إذا كانت الملاعب من شارليتي حتّى سنتياغو تتحوّل شيئا فشيئا إلى مكان للمعنى، للمعنى العكسيّ، للاّمعنى، إلى رمز للأمل أو للرّعب أو للهول، نستشعر حينئذ أنّ ذلك لا يعود فقط إلى طاقة استيعابها، كما يقول المعلّقون الرّياضيون. ففي هذه الأماكن تُمارَس أيضا طقوس كبرى، إعادات هي كذلك بدايات جديدة. ننتظر من أيّ طقس أن يكتمل (أن يكون مثيلا لذاته، ثابتا مثل لاتينيّة الكنيسة) وأن يُكمِل: فلتهطل المطر، وليتوقّف الوباء، وليكن الحصاد جيّدا ولتساعد الآلهة على ذلك. الطّقس يكرّر ولكنّه يدشّن، يفتح الانتظار. في الطّقس الرّياضيّ، ينطمس الانتظار بالحفل ذاته: ففي نهاية الوقت القانونيّ ستكتمل اللّعبة ولكنّ المستقبل كان موجودا قطعة من الزّمن الخالص، نعمة بروستيّة ( نسبة إلى بروست Proust) باستعمال شعبيّ.هذا المستقبل المحكوم بالأسبقيّة يعود ليصبح ممكنا مرّة أخرى في أجل منتظم. إنّها بالتّأكيد لَصفة مميّزة لعصر ولمجتمع أن تكون هذه القطع الزّمنيّة الصّغيرة كافية لتحقيق سعادتنا. لديّ أخيرا توضيح واقتراح: في المستعمرات الفرنسيّة في أفريقيا، دخلت كرة القدم دخولا مشابها لدخول المسيحيّة، أي أنّها كانت شأن البيض أوّلا والمبدّلين دينهم لاحقا. بعد ذلك، وبخصوص الجمعيات المحلّيّة، كان موقف الإدارة غامضا غموض موقفها من الكنائس التّوفيقيّة. فهي من جهة كانت تعتبر أنّ كرة القدم توجّه الطّاقات وتمثّل عملا صحّيّا للشّباب وينبغي التّشجيع عليها. ومن جهة أخرى كانت ترتاب من أيّة جمعيّة تلقائيّة وتخاف من التّجمّعات الّتي تحدثها المباريات. وليس مؤكّدا من ناحية أخرى أنّ موقف الحكومات الوطنيّة اليوم يختلف كثيرا عن موقفها ذاك. من جهة أفريقيا، تجد النّزعة التّوفيقيّة مكانها المأثور في كرة القدم. فالحماية السّحريّة للمرمى وللحارس، واستشارة الآلهة ورقية اللاّعبين هي شعائر معروفة جدّا يسخر منها الأوروبّيون تلقائيّا (ولكنّهم يسخرون في سرّهم عندما يرسم البرازيليون أو الأرجنتينيون أثناء دخولهم إلى الملعب رمز المسيح بأيديهم، والسّبب دون شكّ هو أنّ هؤلاء يسجّلون أهدافا أكثر) والحال أنّها جديرة بأن تشرح ذواتهم هم أيضا. ربّما يكون الغرب متقدّما بديانة وهو لا يدرك ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.