كرة القدم تملأ العالم انتشاء وسَكْرة. لا رياضة تجاريها في مكانتها في قلوب العشّاق والمريدين. طعام هي.. ماء وهواء.. سكن وملبس. تقيم في كلّ مكان. تتدخّل في كلّ شيء؛ في الذوق وفي العمل وفي الرؤية للعالم وفي العلاقات الاجتماعيّة والروابط الأسريّة والدمويّة وفي الألعاب وفي توزيع الوقت وفي الحلم، أيضا. هويّةً صارت فينسب الهاوي إلى نادٍ أو صفة نادٍ كأن يدعى شخص ما ? «مكشّخ» أو «كلوبيست» أو «إيتواليست»، أو يسمّى باسم لاعب من اللاعبين أو بكنيته، فيعرف به أو بها كأن يكنّى هاوٍ ما، وقد لا يكون هاويا، ? «روماريو» لشبه في شكل الساقين أو ? «ريفالدو» لشبه في الملامح أو ? «وياه» لشبه في قوّة الجسم أو ? «رونالدينيو» لشبه في الشكل أو اللون أو ? «زيدان» لشبه في الطبع. وتجري الأوصاف والكنيات مجرى الأسماء حتى يكاد الاسم يختفي. ويشتهر الكائن الهاوي، وقد لا يكون هاويا وإنّما قرّرت الجماعة أن تطلق عليه تلك الكنية أو ذلك الاسم، بصفة غيره أو بكنيته. ويتلاشى اسمه المدنيّ ونسبه العائليّ. ويصيب وجودَه الاجتماعيّ إفسادٌ سيميائيّ بصورة شبيهة بمعنى البلبلة التي حدّث عنها العهد القديم بين سكّان بابل. نقرأ: «وكانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّها لُغَةٌ واحدةٌ وكلامٌ واحدٌ .فلمَّا رحَلوا مِنَ المَشرقِ وَجَدوا بُقعَةً في سَهلِ شِنْعارَ، فأقاموا هُناكَ . وقالَ بعضُهُم لِبعضٍ: «تعالَوا نصنَع لِبْناً ونَشْوِيهِ شيًّا»، فكانَ لهُمُ اللِّبْنُ بَدَلَ الحِجارَةِ والتُرابُ الأحمرُ بَدَلَ الطِّينِ. وقالوا: «تعالَوْا نَبْنِ لنا مدينَةً وبُرجاً رأسُهُ في السَّماءِ. وَنُقِمْ لنا اسماً فلا نتَشتَّتُ على وجهِ الأرضِ كلِّّها». ونَزَلَ الرّبُّ لِيَنظُرَ المدينَةَ والبُرجَ الّلذَيْنِ كانَ بَنو آدمَ يَبنونَهما، فقالَ الرّبُّ: «ها هُم شعبٌ واحدٌ، ولهُم جميعاً لُغَةٌ واحدةٌ! ما هذا الّذي عَمِلوه إِلاَّ بِدايةً، ولن يصعُبَ علَيهم شيءٌ مِمّا يَنوونَ أنْ يعمَلوه! فلنَنزِلْ ونُبَلبِلْ هُناكَ لُغَتَهُم، حتّى لا يفهَمَ بعضُهُم لُغَةَ بعضٍ.» فشَتَّتَهُمُ الرّبُّ مِنْ هُناكَ على وجهِ الأرضِ كُلِّها، فكَفُّوا عَن بِناءِ المدينة. ولِهذا سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ النَّاسِ جميعاً، ومِنْ هُناكَ شَتَّتَهُمُ الرّبُّ على وجهِ الأرضِ كُلِّها.»(1) بلبلة لغة البابليّين كانت قضاء ربّانيّا. حكما من سيّد السماء كانت سلّطه على أهالي بابل خوفا منهم عليه في إطار صراع على المنزلة والمكانة. فالربّ كان يخشى المنافسة على عليائه. والبابليّون كانوا طامحين إلى المطلق. فتصادم الطموح الإنسانيّ مع اليقظة الربّانيّة. لكنّ بلبلة اليوم أرضيّة خالصة. فأهل الأرض هواة لعبة كرة القدم نشأت فيهم عادة احتقار أسمائهم والاستعاضة عنها بما ليس فيها ولا منها ولا لها؛ بأسماء الشهرة. فبأيّ اسم ينادى الإنسان؟ وهل تقبل الأمّهات بَدَد أسماء أبنائهنّ؛ الأسماء التي حلمن بها وهدهدن بها بطونهنّ الحوامل؟ أم عليهنّ بأن يتثقّفن بثقافة لعبة كرة القدم هنّ الأخريات حتى تستقيم الأمور للتكنوقراط (لا احتجاج ولا تفكير.. وإنّما الهرج والضجيج والصخب.. وتحيا كرة القدم.. ويبلى الجميع)؟ نتوهّم أنّنا في عصر العلم ولشدّما ابتعدنا عن عصر الأسطورة. ولكنّ الأسطورة تسخر منّا، من علمنا ومن عقلنا اللذيْن يصرّان إصرارا طفوليّا على التعامي عن رؤيتها. ولكنّ تعاميهما عنها لا يعني، طبعا، أنّها غير موجودة. بل إنّها لم تتوقّف يوما عن التواجد. ولم تغادر الوجود مطلقا. ولأنّنا كففنا منذ زمن عن أن نرى العالم بأعين الشعراء أصابنا العشى. لقد استبدلنا أعين الشعراء بأعين المضاربين والسماسرة (الرِّبحَ.. الرِّبحَ!!) .. فخرِبَ العالم. لذلك لم يتمّ التفطّن إلى أنّ الاسم يعدّ منطقة خطر وجوديّ. أو هي منطقة مقدّسة يجب ألاّ تدنّس. ولابدّ أن يتمّ استثناؤها من دائرة الرّبح. من هنا، من الاسم أعني، تشرع عمليّة الاستلاب في العمل. إنّ التسمية فعل تاريخيّ إذ أنّها تعلن عن نشأة كائن مدنيّ له وجود تاريخيّ في مكان ما وفي زمان ما. والكائن لا يستطيع أن يشارك الكائنات الاجتماعيّة اجتماعهم المدينيّ أو القرويّ أو الصحراويّ أو غيرها في أيّ مكان دون اسم. الاسم أوّلا ثمّ تأتي الصفات فالقيم. والتسمية، أيضا، فعل وجوديّ لأنّها عيّنت موجودا من الموجودات. وكشفت هويّته الكامنة في الكون. إنّها عمليّة نقل للموجود من الوجود بالقوّة في الطبيعة إلى الوجود بالفعل في المجتمع. التسمية هذه ممارسة حضاريّة. وحين تدخّلت فيها طقوس كرة القدم بدأت في تفتيتها. فتعثّرت خطوات الكائن الإنسان الحضاريّة الأولى. وشرع في تدشين عهد جديد له؛ عهد البدَد. إنّ كرة القدم يعشقها الناس فتُبَدِّد أسماءهم بأن تنقلهم من المعلوم الحضاريّ لتعيدهم مجاهيلَ في الطبيعة. إنّها بهذا المعنى تعطّل، رمزيّا، المسعى الحضاريّ للكائن الإنسان. 2. هل ولّت أزمنة الاستعباد؟: يبدو لي أنّ الرأسماليّة نظام صادر عن طباع جديدة تخلّقت في الكائن الإنسان وتأخّرت الأنثروبولوجيا والعلوم الرفيقة في رصدها. ولعلّ ذاك التأخّر عائد إلى تدخّل رأس المال في الأنثروبولوجيا نفسها!! ومن المعروف أنّ من آليّات اشتغال رأس المال الاستقطاب. وهدفه واحد: الرّبح ولا شيء سواه. والأدوات كلّها متاحة له مباحة مادامت الغاية تبرّر الوسيلة. ولذلك لم يبق مجال ولا قطاع حيويّا كان أو ثانويّا أو فرعيّا أو طبيعيّا أو بيئيّا أو طبيّا أو تعليميّا خارج دائرة قانون الربح الرأسماليّ. لقد كشف صنع الله إبراهيم في رواية "شرف"(2) عن مراوغات (استعار رأس المال تقنيات كرة القدم أيضا!!) رأس المال للتسرّب إلى قطاع حيويّ للكائنات وللموجودات وللأرض أمِّ الجميع هو قطاع الدواء. ولكنّ مراوغات رأس المال لا تلهب الجماهير كما تفعل مراوغات لاعب كرة القدم الحاذق. وإنّما تدوّخها فتعجز عن فهمها لو حاولت. وتصل إلى النتيجة الحتميّة التالية: «ما لي أنا وهذه الأمور!؟ إنّها ليست من شأني. وليس من شأني أن أعرف من أين يأتيني الدواء ولا تركيبته ولا لواحقه الجانبيّة ولا مضارّه البيئيّة؟» لماذا ينتهي أمر الجماهير إلى هذه النتيجة؟ يفسّر راوي صنع الله ذلك بنظام الدوائر اللولبيّة المدوّخة الذي تشتغل به الرأسماليّة. إنّها لا تعمل بشكل خطّي مستقيم فذلك سيجعل الجماهير ترصد فضيحتها. إنّها تخشى الفضيحة وتتوقّعها. ولذلك تحتاط لها. وعمل الرأسماليّة الخطّي هو درب الفضيحة. ولذلك تفضّل العمل بالدوائر اللولبيّة المدوّخة بعد أن تكون قد رشت العقل البشريّ الفذّ لتوظّفه في رسم دوائر المراوغات الكفيلة بالنفاذ إلى أسواق الدواء في العالم الثالث والسيطرة عليها سيطرة كاملة تسمح لها بالتجريب البيولوجيّ على البشر دون أن تزعجها الجماهير بالسؤال والاحتجاج. ولكن لابدّ من الإشارة إلى أنّ العقل البشريّ الموظّف عند الرأسماليّة يعمل على أن تكون الدائرة اللولبيّة التي يخطّها متوّهةً للجماهير فقط لا لرأس المال. يعني ذلك ببساطة أن تتوه الجماهير فيما تكون رؤيته واضحة لرأس المال تمام الوضوح. ذكر راوي صنع الله إبراهيم في "شرف" أنّ الشركات الاحتكاريّة المتعدّدة الجنسيّات تخترق أسواق الدواء المحليّة برشوة التكنوقراط الإعلاميّ والإداريّ الرسميّين؛ الأوّل يتولّى مهمّة الترويج للوهم وإعداد الجماهير للخضوع لرأس المال، والثاني يؤشّر عليه ويختم ويُمضي فيما يكون رأس المال بصدد إنتاج نسخ رخيصة معدّلة من ماركات الدواء العالميّة، أو لنقل بصدق يعدّ نسخا مشوّهة موجّهة للجماهير التي وثقت في التكنوقراط الإعلاميّ والإداريّ الرسميّين. فإذا كان رأس المال يفعل هذا بالدواء الذي ينزل عند الجماهير منزلة المقدّس، فهل يمكن أن تفلت من حبائله لعبة كرة القدم؟ طبعا، لا. كانت خصال الإنسان في العصور التي كنّا نسمّيها جاهليّة تميّزه ليحكم ويسود ويقود ويدافع ويضحّي ويبني ويحَبّ. أمّا في أزمنة الحضارة السعيدة اليوم فإنّ هذه الخصال تحدّد سعره. والأرفع خصالا هو الأرفع ثمنا. والبشر جميعا للبيع والشراء من كلّ الجنسيّات والأعراق والقارّات والأديان والحضارات، وبالمزاد، أيضا. لا فرق هنا بين العربيّ والأوروبيّ واللاتينيّ والآسيويّ والأمريكيّ والإفريقيّ. فجميعهم بضاعة للاستثمار الرأسماليّ. وإنّما لكلٍّ ثمنه. والاختلاف الوحيد في البيع والشراء ينشأ عن العامل الاقتصاديّ الصناعيّ. فالمشترون الأغنى هم من الدول المصنّعة الغربيّة. وأغلى الكائنات المباعة ثمنا تجد مشتريها من هذه السوق. ولذلك من النادر أن تشتري سوق عالمثالثيّة كائنا غربيّا. وإنّما الكائنات العالمثالثيّة المعروضة للبيع تطمح إلى أن يكون أسيادها المشترون المالكون الجدد من غير عالمهم الفقير. غريب أمر هذه الدول المصنّعة الرأسماليّة؛ تسرق من الجميع مواردهم وثرواتهم، ثمّ تحوّل ألعابهم وسلواهم إلى أداة لاستعبادهم!! الجميع يشاركون بالتواطؤ وبالتعمية وبتسمية الأشياء بغير أسمائها في إلقاء الكائن الإنسان في عتمة أزمنة الاستعباد من جديد. والغريب أنّ الجميع سعداء: البائع والشاري والمباع وأمّه وأبوه والوسيط والشريك والتكنوقراط الإعلاميّ والإداريّ و.. الجماهير، أيضا!! لجميع الأطراف المتدخّلة في الصفقة نصيب منها، مع تفاوت في الأقسام، إلاّ الجماهير لا نصيب لها!! الجميع يربحون ماديّا، طبعا. وهي فقط التي لا تربح شيئا، أبدا. بل بالعكس تخسر مالها وأعصابها. وتهمل عيالها. وتفسُد أخلاقُها. وتضيع كفاءاتها في خلق الجمال وتذوّقه، إذ أنّها تصبح لا تكاد تراه إلاّ في الرّكل؛ ركل الجلد المدوّر المزيّن بالأبيض والأسود أو الأحمر والأسود. فلماذا تهلّل وتفرح بكلّ هذا الجنون، إذن!؟ هذا هو عمل التكنوقراط العون المخلص لرأس المال. زمن طويل مضى على توقيع آخر الأمم على معاهدة إلغاء الرقّ. لكنّنا نرى اليوم الكائنات البشريّة تبيع أنفسها بحثا عن الثروة في نوع من العبوديّة. وليست عبوديّة مستترة ولا رمزيّة. وإنّما هي عبوديّة واضحة وضوحا صارخا إذ يُسعّر الكائن الإنسان. ويبيعه سيّد مالك إلى سيّد مالك بعقد موقّع مضمون التوقيع وبعلم الجميع ومباركتهم: الأهل والسلطة والجماهير. ولا أحد يحتجّ أو يستنكر، ولا حتى الكائن المباع نفسه!! العبد في الماضي عبد مادام حيّا. والعبد، اليوم، عبد مادام قادرا على أن يكون أسرع من الجميع في ركل كرة الجلد. لقد كانت بداية كرة القدم لعبة يتسلّى بها عمّال المصانع الإنجليزيّة عن سطوة رأس المال الذي يأكل عرقهم. لكنّ رأس المال بطبعه الانتهازيّ الاستلابيّ المعادي لإنسانيّة الإنسان اغتصب من العمّال سلواهم. فنفذ إلى اللعبة وجعل لها مكافآت وأرباحا. وجعل للاعبين أثمانا. وأقام المنافسات. وتحالف مع الإعلام. وتواعدا على اقتسام عرق العمّال. هكذا فرضت على العامل المعادلة التالية: إذا مارست لعبة كرة القدم، اللعبة المتعة اللذة، خسرت إنسانيّتك. وقد تستعيدها إذا كففت عن التلذّذ والاستمتاع. ولكن باستعادتك لحريّتك سيأتي آلاف السعداء راكضين مطالبين بالعبوديّة التي كنت فيها. يذهب عبد.. ويأتي عبد. والعبوديّة السعيدة المغلّفة إعلاميّا والمقنّنة إداريّا باقية. لقد كانت لعبة كرة القدم في بدايتها جبهة أماميّة تلقائيّة غير مؤطّرة سياسيّا في معركة الإنسان الشريفة ضدّ الرأسماليّة. لكنّ رأس المال حسمها بسرعة. وحوّلها إلى قناة لمراكمة ربحه واستعباد الكائن الإنسان. والشاعر وحده يئنّ ويتوجّع من سيادة أزمنة السبي هذه: «سبايا نحن في هذا الزمان الرّخو أسلمنا الغزاة إلى أهالينا فما كدنا نعضّ الأرض حتى انقضّ حامينا على الأعراس والذكرى فوزّعنا أغانينا على الحرّاس»(3) 3. القَدامة المظفّرة: كرة القدم كوّة خلفيّة فتحها الإعلام. فنفذت منها القدامة إلى حاضرنا من حيث لم يتفطّن أحد. مرّة نسيء التقدير. فلم نعامل القدامة باحترام. واعتقدنا أنّنا كنسناها نهائيّا من وجودنا. ولكنّها كما الأسطورة لم تفارق ليل وجودنا العربيّ يوما. والإعلام المجيد في واقعنا الثقافيّ فتح لها معبرا. فدخلت. ولوّنت الخطاب الإعلاميّ بألوانها من حيث كان يعتقد أنّه يؤدّي دوره "الوطنيّ" في تشجيع منتخبه الكرويّ ليفوز. القدم والقدامة من المادّة المعجميّة نفسها: (ق،د، م). بينهما فقط كرة. كما يقيم التشابه بين القدامة وكرة القدم أيضا فيما حدّثت عنه كتب الأخبار لاسيّما كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنّى اللغويّ الأخباريّ العربيّ المعروف (? 204?) "أيّام العرب". لقد كان عرب ما قبل الإسلام يسمّون معاركهم أيّاما لوقوع أغلبها في نهار اليوم. وكان من عادتهم أن يأخذوا نساءهم معهم إلى الحرب. ويجعلوهنّ خلف الصفوف ليحفّزنهم على القتال بأناشيدهنّ. وكان المقاتل يخشى الهزيمة فتسبى امرأته أو أمّه أو أخته أو ابنته. فيشتدّ حماسه. ويتضاعف جلَده وصبره. هذه المناخات القبليّة القديمة التي تصوّرنا أنّنا تركناها هناك في جزيرة العرب قبل الإسلام ترفض الإقامة في التاريخ. وتصرّ على مشاركتنا حاضرنا. ففي جريدة يوميّة تونسيّة مشهورة نقرأ في صفحة العناوين العنوانين المتتاليين الملوّنين التاليين: «اليوم يومكم يا نسور» و «رسالة مضمونة الوصول بإمضاء «السيّدات»: نريدكم «رجالا»»(4). يا إلهي كم أجلّ القدامة!! وكم أجلّ إصرارها على الدفاع عن نفسها لاسيّما أمام هشاشة الخطاب الإعلاميّ!! فالخطاب الإعلاميّ سمّى المباراة يوما. واليوم في أيّام العرب، كما لاحظنا، هو المعركة أو الحرب. فعبارة "اليوم يومكم" تعني: المعركة معركتكم أو الحرب حربكم. هكذا حوّل الخطاب الإعلاميّ اللعبة التي كان يتسلّى بها العمّال عن سطوة رأس المال إلى حرب. لكنّ الحرب تقتضي عدوّا. والعدوّ في الحرب يقتل أو يصاب أو يجرح أو يؤسر. وفي الحرب إمّا أن تَقتل أو تُقتل. فهل لاعب كرة القدم المنافس عدوّ يباح قتله أو أسره؟ إذا كان الجواب بالنفي، فلِم تمّت استعارة قاموس الحرب القديم ذاك؟ للتحفيز؟ تحفيز من؛ اللاعبين أم الجماهير؟ اللاعبون في أرض أخرى. والجماهير بعيدة عن ساحة المعركة. فلماذا تتمّ إثارة حماستها بهذا الشكل التحريضيّ؟ وإن كان لابدّ للخطاب الإعلاميّ من قاموس عسكريّ لماذا لم يستعمل قاموسا معاصرا؟ فهل مردّ ذلك لقوّة خطاب القدامة أم للضعف الفادح للخطاب الإعلاميّ المعاصر؟ العنوان الثاني يحتمل (لثرائه!!) قراءات متعدّدة. نستبعد، طبعا، القراءة الآليّة إذ لا أحد رأى النساء التونسيّات يتدافعن بالمناكب يوم الأربعاء 13 جانفي 2010 أمام مكاتب البريد ليرسلن رسائل مضمونة الوصول للاعبي كرة القدم. ولابدّ أن نلاحظ الحرص على تمييز فئة المرسلات المفترضات. فهنّ السيّدات التونسيّات. ولسن تلميذات المدارس ولا طالبات الجامعات ولا بنات الليل. ولفظ السيّدات وضع في عنوان الجريدة بين علامتين هكذا: «السيّدات». فهو ليس اعتباطيّا الأمر الذي جعله قابلا للقراءة والتأويل، أيضا. مَن هي "السيّدة" في المجتمع المعاصر؟ هي المرأة المتزوّجة المحصّنة الرّصينة ذات المكانة الاجتماعيّة المحترمة. هذه الفئة من النساء تهتمّ بكرة القدم خلافا لما يتوهّمه الناس. فمن وظائف اختيار هذا اللفظ ووضعه بين علامتين تبديد الوهم الشائع بأنّ كرة القدم لا تشغل بال السيّدات المحترمات ذوات المكانة الاجتماعيّة المحترمة. هذا على افتراض أنّ الخطاب الإعلاميّ أنجز عملا إحصائيّا دقيقا، ويملك الحجّة. بقي أنّ مضمون الرّسالة العاجلة الملحّة المضمونة الوصول الموجّهة من السيّدات المتزوّجات المحصّنات إلى اللاعبين تثير السؤال. وتحتاج، هي أيضا، إلى القراءة والتأويل. فهنّ يطالبن اللاعبين بصيغة الأمر "أن يكنوا رجالا". للسيّدات رجالهنّ فلماذا يطالبن غيرهم بأن يكونوا رجالا؟ لماذا لم يطالبنهم بأن يكونوا ماهرين أو سريعين أو يقظين، مثلا؟ لماذا هذا القاموس؟ ومطالبتهنّ هؤلاء ? "أن يكونوا رجالا" هل تعني أنّهم ليسوا كذلك، أحيانا؟ ما الفرق الدلاليّ عند المرسَل إليهم بين أن تكون الرسالة مرسلة من النساء عموما أو من الفتيات وبين أن تكون من السيّدات؟ هل بحث الخطاب الإعلاميّ عن الأثر؟ هذا يعني أنّه متقن لأدوات علم النفس التحليليّ. ولكنّه هل كان متفطّنا إلى القدامة التي توسّل بأدواتها توقيع الأثر قد كانت أرفع منه وأجود؟ فالسيّدات في أيّام العرب كنّ وراء رجالهنّ يحفّزنهم على القتال ويعدنهم بولائم الحبّ عند الفوز. أمّا السيّدات اللاتي حُشرن في موضوع لعبة كرة القدم فقد جعلهنّ الخطاب الإعلاميّ في صورة رمزيّة تحتمل قراءات ماكرة أخرى. فهنّ لسن خلف أزواجهنّ. ويطالبن غير أزواجهنّ بما لا حقّ لهنّ فيه. فماذا أيّها الخطاب الإعلاميّ؟ إلى متى ستظلّ عشوائيّا مفتقرا إلى العلم باللغة وبخطاباتها وأنت تشكّل عقول الجماهير وتمثّل مصدر ثقافتهم؟ ما ستقوله تردّده الجماهير. وقد جعلت الجماهير تجترّ القدامة. وسائل الإعلام تستثمر أحدث منتجات العقل البشريّ التكنولوجيّة من مطابع وأجهزة نسخ وهواتف وسواتل وورق وحبر وربحٍ ومكيّفات هواء ومدفّئات ونوافذ زجاجيّة وربطات عنق وسجائر فاخرة فقط من أجل أن تفتح للقدامة نافذة. فطوبى لأيّام العرب؛ لم تتعرّض لها الجماهير في المدارس فعاشتها في الخطاب الإعلاميّ المظفّر. كرة القدم من لعبة للتسلّي عن بطش الأعراف واستبداد رأس المال إلى طقوس للسقوط الواضح الفاضح في مهاوي البَدَد وفي ظلام أزمنة الاستعباد وفي رثاثة القدامة. كلّ هذا يحدث للجماهير والفكر التقدميّ يتفرّج. بل يساهم أحيانا كثيرة في لغط الصفقات البشريّة. ويردّد الشعارات الإعلاميّة القداميّة. ويتراخى عن أداء دوره النضاليّ في فضح الاستبداد والتصدّي له وفي الحفاظ على مكاسب الجماهير العربيّة الثقافيّة وفي الدفاع عن ملاهي الجماهير من استغلال رأس المال ومن تآمره مع التكنوقراط على ألعاب الأطفال والرجال. ------------------------------------------------ كاتب من تونس: [email protected] 1. العهد القديم، سفر التكوين، الفصل 11، الإصحاح الأوّل: بابل، The Bible Society in Lebanon 2. صنع الله إبراهيم: شرف، دار المدى، ط 3، دمشق، سوريا، 2001. 3. محمود درويش: حصار لمدائح البحر، دار سراس للنشر، تونس 1984، ص 90. 4. (جريدة الشروق التونسيّة، الأربعاء 13 جانفي، 2010)