بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي مرّت 52 عاما على ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، ولم تكن هذه الثورة مرتجلة نفّذها ضباط مغامرون كما يحصل في العديد من بلدان العالم بل كانت ثورة لها أهداف وغايات تخصّ الشعب العراقي كلّه. لقد كان العهد الملكي متهما بتبعيته للغرب (بريطانيا بشكل خاص) وأن السّاسة الكبار الذين يسيّرون شؤون البلد هم من عملائها وخاصة نوري السعيد داهية السياسة الذي ظلّ محرّكا فاعلا فيها حتى قبل قيام دولة العراق الملكية عام 1921 وكان لنوري السعيد دور مهم في جلوس فيصل الأول على عرش العراق بعد إزاحته من حكم سوريا إذ أن ما أعدّ لها غير الذي أعدّ للعراق. جاء فيصل ومعه عدد من السياسيين الذين كان من بينهم أبناء أقطار عربية أخرى خاصة سوريا وشكلوا هيكل الحكم الجديد الذي تواصل 52 عاما، وقد شهدت هذه السنوات أحداثا كبيرة ليس أكبرها حادث مقتل الملك غازي الأول الذي عدّه البعض قضاء وقدرا وعدّه آخر عملية اغتيال مدبرة نفذها مرافقه الذي كان يجلس خلفه في سيارته التي يقودها بنفسه وبأقصى سرعة إذ كان الملك غازي وقتها فتى متحمّسا، وضع إذاعة خاصة في القصر الملكي سمّيت إذاعة قصر الزهور وهذا اسم القصر الملكي وكان هاديا للانقليز ومن هنا تواردت الأخبار أنهم من كانوا وراء اغتياله وبدعم من نوري السعيد. كما أن الأمير عبد الإله خال الملك فيصل الثاني الذي عيّن وصيّا على العرش بعد وفاة غازي نظرا لصغر سن الملك فيصل الثاني كان مكروها من الشعب العراقي، وحصلت عدة انقلابات من بينها انقلاب بكر صدقي وحركات مثل حركة رشيد عالي الكيلاني ولكنها لم تفلح في اسقاط النظام الملكي ولا تحجيم دور الساسة الكبار وخاصة نوري السعيد الذي إذا لم يستلم رئاسة الوزارة يكون هو وراء اختيار رئيس الوزارة. وقد تورّط العراق الملكي بأحلاف أفقدته استقلاليته وأشهرها حلف بغداد، كما كان لشركة البترول البريطانية نفوذ كبير وكانت هي المسيطرة على النفط العراقي استخراجا وتصديرا ولا تعطي للبلد إلا نسبة قليلة، كما أن الدينار العراقي كان تابعا للجنيه الاسترليني البريطاني، وكانت المعارضة الوطنية مكمّمة الأفواه والسجون تغصّ بسجناء الرأي من الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وبعض أعضاء حزب البعث الوليد الذي مازال في طور النشوء. وكان عدد كبير من الأدباء والفنانين يعيشون لاجئين في بلدان المعسكر الاشتراكي بشكل خاص. وقد جاءت ثورة 14 تموز لتصحّح المسار الخاطئ والتابع الذي يعيشه العراق. لكن الثورة هذه ورغم نبل أهدافها صاحبتها ممارسات ما كان يجب أن تحدث لأنها أعطت صورة مغايرة لها ابتداء من حادث تصفية الأسرة المالكة بتوجيه نيران البنادق عليهم وهم عزّل وقد خرجوا ليسلموا أنفسهم للانقلابيين، وكان الملك وقتها فتى صغيرا في الثالثة والعشرين من عمره. ولم يكن قصر الزهور محميا بالدبابات بل هناك بعض الجنود فقط الذين يقومون بفلاحة حديقة القصر أو قيادة السيارات الملكية المعدودة. وقد قتل الملك ووالدته وأفراد آخرون من الأسرة والمعينين برشق رصاص جنود حمقى، والصورة البشعة الأخرى هي انطلاق هياج الغوغاء للتمثيل بجسدي نوري السعيد وعبد الإله وسحلهما في الشوارع، وهو السلوك الذي سيحرّك الغوغاء أنفسهم ولكن هذه المرة بتوجيه من الحزب الشيوعي لاقتراف جرائم سحل وتعليق على أعمدة الكهرباء في كركوك والموصل، وهو ما أثار غضب الزعيم عبد الكريم قاسم وأمر باعتقال ومحاكمة من قاموا بهذه الأعمال. لكن الثورة كانت قد انقسمت على نفسها وتقاتل منفّذوها ما بين قوميين يريدون وحدة فورية مع مصر عبد الناصر حتى ولو كان الأمر مجرد شعار سياسي يرفع بوجه اليساريين والقاسميّين الذين رفعوا شعار اتحاد فيدرالي مع مصر، ولكن حتى هذا لن يكون، وصار التقاتل بالشعارات التي لم تتحول الى واقع. وسقط حكم عبد الكريم قاسم في 8 شباط (فيفري) 1963 بعد أن انقلب عليه كل المتضررين من عهده. وسرعان ما سيطر عبد السلام عارف رفيق قاسم وخصمه بعد ذلك على رئاسة الجمهورية، وتبعه شقيقه حتى سقوط حكمهما عام 1968 على يد حزب البعث الذي بقي في الحكم حتى احتلال العراق عام 2003. لكن ثورة 14 تموز 1958 حقّقت الكثير من الأهداف المهمة للشعب العراقي منها إخراجه من الأحلاف العسكرية المكبلة له، وتأسيس شركة النفط الوطنية كخطوة أولى لاستعادة النفط العراقي من الشركة البريطانية، كما تمّ تحرير الدينار العراقي من تبعيته للجنيه الاسترليني، وكذلك إقامة علاقات ديبلوماسية مع بلدان المعسكر الاشتراكي وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي وكذلك مع الصين الشعبية وانطلقت البعثات العلمية والفنية لهذه البلدان مما رفد الحياة الثقافية بكوادر بارزة بعد أن كانت البعثات مقتصرة على بعض البلدان الغربية. لكن ثورة 14 تموز لم تنم نموا طبيعيا بل تعرضت الى نكسات وانقلابات ومؤامرات وصولا الى استئثار طويل بالسلطة من قبل حزب واحد أطيح به عن طريق الغزو وعملاء يحملون الجنسية العراقية فاقوا بعمالتهم بعض رجالات العهد الملكي. ومن هنا فإن نسبة كبيرة من العراقيين يرون أن ما جرى للعراق من مآس مترادفة ما كان لها أن تجري لو لم تكن للبلد مكانته الرائدة في تعزيز قيمة الأمة العربية وتعزيز مكانتها الحضارية والسياسية منذ العهد العباسي وحتى احتلاله وتحويله الى بلد مقطّع الأوصال عاجز حتى عن تشكيل حكومة متجانسة. ومع هذا كله تبقى روح 14تموز 1958 حية في نفوس العراقيين كلهم من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب.