بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي إذا كنت قد كتبت في الأسبوع الماضي عن ثورة 14 تموز (جويلية) العراقية بعد 52 عاما مرّت عليها، وما أخذت وما أضافت فإن هناك ثورة تموزية رائدة أخرى في مصر. (لاحظوا أننا العرب أطلقنا عدة تسميات لشهر تموز فهو في المغرب العربي جويلية وفي مصر يوليو) ولكن المهم أن ثورة مصر نفذها الضباط الأحرار بستّ سنوات قبل ثورة العراق، ولذا يمكن القول دون تحفّظ إن الثورة الرائدة في مصر وبعدها في العراق كانتا مفتاحا لثورات أخرى في ليبيا والسودان واليمن وعرفت سوريا كمّا من الانقلابات والتحولات التي أوصلت الرئيس حافظ الأسد الى الحكم واستمرّ عهده دون تلك المتغيرات حتى بعد رحيله واستلام الحكم من قبل الرئيس بشار الأسد الذي مرّ على حكمه عشر سنوات استطاع فيها أن يسيّر دفة الحكم بذكاء وحكمة وليس هذا موضوع حديثنا. عندما أراجع ما بقي في الذاكرة عن ثورة مصر أرى اختلافها عن ثورة العراق ويمكن أن نصف ثورة مصر بالثورة البيضاء لأنها لم تقترن بالدم، وقد تمّ تسفير الملك فاروق عن طريق البحر الى إيطاليا باختياره على أن يكون ولده الطفل وليا للعهد، ولكن هذا لم ينفذ وتحول الحكم الملكي الى جمهوري، لم يقتل أحد ولم تسحل جثث في الشوارع ولم ترتكب بشاعات، كما لم تنصب محاكم عسكرية مثل محكمة المهداوي المسماة محكمة الثورة التي اقتيد إليها من بقي حيّا من رجالات العهد الملكي وحكم على البعض منهم بالاعدام وتمّ تنفيذ الحكم فيه فعلا. ولكن للثورتين أهداف وطنية وقومية، وكان عبد الناصر قائد ثورة مصر مقتنعا بالدور المصري عربيا وإفريقيا، وأصبحت الوحدة العربية أحد شواغله الأساسية في زمن لا يسمح أعداء الوطن العربي لأي تقارب بين هذا البلد أو ذاك فكيف إذا كان هذا التقارب وحدة؟ ولذا سرعان ما أفشلوا الوحدة الرائدة بين مصر وسوريا التي انبثقت عنها الجمهورية العربية المتحدة التي كان من الممكن لها لو تواصلت أن تضمّ بلدانا عربية أخرى. ونجد أن وحدة مصر وسوريا قابلها الاتحاد الهاشمي نسبة الى الأسرة الملكية الحاكمة في كل من الأردن والعراق وهو اتحاد بعيد كل البعد عن وحدة مصر وسوريا إن لم نقل كان ردّ فعل عليها، وقد ذكر أن مهندسه كان السياسي الأول في العراق الملكي نوري السعيد. وفي الوقت الذي تألق فيه، اسم عبد الناصر وصار أحد أكبر زعماء العالم الثالث وصار مقترنا بأسماء قادة أمثال تيتو ونكروما ونهرو اكتفى عبد الكريم قاسم رغم شعبيته العراقية الواسعة التي لم يحظ بها زعيم عراقي غيره بحضوره داخل العراق، ولم يكن متحمسا لدعوات الوحدة التي أرادها القوميون ومحبو عبد الناصر وتجربته، ولذا كثرت محاولات الانقلاب عليه، ولكن عبد الكريم قاسم لم ينسق مع ما كان يكيله له الأعلام المصري حيث لقّبه المذيع أحمد سعيد (قاسم العراق) وكان ردّه جملة واحدة في احدى خطبه (أن العراق جزء من كل وليس جزءا من جزء) والمعنى واضح، وسقط قاسم ولم تقم الوحدة ولا حتى الاتحاد، ولعله كان يعرف هذا لأن شعاره كان (اتحاد فيدرالي) الذي سوّقه الشيوعيون وأضافوا إليه عبارة (صداقة سوفياتية). أتوقف عند هذا الحد من الاسترسال لأعود الى مسألة مهمة وهي أن كلا من قائد ثورة مصر عبد الناصر وقائد ثورة العراق عبد الكريم قاسم من القادة العسكريين العرب الذين شاركوا في حرب فلسطين، وكانا قد قاتلا ببسالة، ولولا خيانات الأنظمة لانتهى المشروع الصهيوني كله، أقول هذا غير مبالغ لأن العصابات الصهيونية لا قدرة لها على مواجهة جيوش نظامية مدربة يقودها عسكريون حكماء من طراز عبد الناصر (مصر) أو عبد الكريم قاسم وعمر علي (العراق). وربما كانت فضيحة الأسلحة الفاسدة في مصر التي فجّرها الصحفي المرموق احسان عبد القدوس حيث كان السلاح يرتدّ على صاحبه احدى علامات تواطؤ الأنظمة مع أعداء العرب وداعمي المشروع الصهيوني أمثال أمريكا وبريطانيا وفرنسا. أما بالنسبة الى العراق فقد شاعت عبارة (ماكو أوامر) أي لا توجد أوامر للقتال، هذه العبارة التي كانت تمنع الجيش العراقي الموجود في فلسطين من القتال، ومع هذا قاتل وحرّر أرضا وقدم الشهداء الذين مازالت مقبرتهم في منطقة «كفر قاسم» دليلا على حماسهم لتحرير الأرض العربية. كانت ذكريات حرب فلسطين حاضرة في فكر عبد الناصر الذي وجد أن لا حلّ إلا بالتخلّص من (نظام الأسلحة الفاسدة)، وبدأ تشكيل الخلايا للضباط الأحرار تمهيدا لقيام الثورة. وكذا الأمر في العراق بالنسبة الى الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه الذين وجدوا أن لا فائدة إلا بإنهاء حكم (ماكو أوامر). إذن درس فلسطين استوعبه زعيما الثورتين، وقد نصّ بيان ثورة 14 تموز في العراق على العمل لتحرير فلسطين، وليس بين يديّ نصّ بيان ثورة يوليو في مصر لأرى ان كان قد نصّ على فلسطين أو تحدث عنها. وأود أن أقول هنا معلومة أخرى إن نواة تأسيس جيش تحرير فلسطين بدأت في العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم. كان كل من عبد الناصر وعبد الكريم قاسم قادمين من قلب المعاناة على الجبهة، ولذا انشغل عبد الناصر بالجيش المصري وتسليحه وهذه مسألة معروفة وانشغل بالمسألة نفسها عبد الكريم قاسم. هذا يؤكد أن فلسطين ستظلّ جرحا وتظلّ محفّزا وتظلّ عنوانا وتظلّ حقا وراءه ملايين المطالبين.