دارفور «الشروق» كتبت فاطمة بن عبد الله الكراي: كنّ خمسة حول حنفية مشاعة لكل السكان... ومنها يخرج ماء «زلال»... وقد عرفت مناطق عديدة في «دارفور» بمائها العذب الذي تهبه الطبيعة... بدا الحديث هادئا بينهن وقد وجدنها فرصة على ما يبدو للتحاور وتبادل الاخبار... نهض المخيم بتؤدة وزاده صوت الأطفال في الساحة التي تتوسط «المعسكر» حيوية... تدخل مخيم اللاجئين في فاشر، فتأخذك العين الى صور متناثرة، فيها هنا جمع من الشيوخ، شيوخ القبائل الذين طالتهم «لعنة» التهجير والحرب... مخيّم أو هي منازل مشيدة غلب عليها اللون الداكن،،، لون الاسمنت... التصق بها لون الرمل الذي يميز تربة المخيم... رمل يميل الى حمرة في مستوى التربة. اللون الداكن الذي يميز المباني قطعه اللون الابيض الذي كان يرتديه التلاميذ الذين تفرّقوا هنا وهناك، في ساحة مترامية... هي أبعد عن ساحة مدرسة لغياب السياج... وهي أقرب الى بطحاء مترامية الأطراف، لا تحدّها سوى المنازل التي تأوي المهجّرين... الوجوه بها وجوم في هذا المخيّم... كيف لا، والناس تعوّدوا على المساحات الكبرى الفاصلة بين كل بيت وآخر... و«كل امرئ من دهره ما تعوّدا»... وعادة أهل السودان عموما، والدارفوريون خصوصا بحكم أنهم مزارعون وأصحاب مواش أنهم يقطنون مساكن متباعدة بعضها عن بعض... تتقدم من باب المعسكر (المخيّم) رويدا رويدا... باب وهو ليس ب«الباب»... بل هو مدخل، واذا بصوت الماء المرتطم من الحنفية، المشتركة بين أهل المخيّم، على أواني البلاستيك التي جلبتها النسوة للتزود بالماء... وبالاخبار... وبالمواقف توضح لك الصورة أكثر حول مخيم للاجئين، قدموا الى هناك في حماية الدولة المركزية وب«إعانة» فيها تنسيق مع الأممالمتحدة... وجوم يعلو كل الوجوه... وصوت طفل يطالعك من بين كوكبة تمر بجانبك وهي تدقق فيك النظر... صوت يطلب منك بتربية: «لا تصوّر... يا عمّو»... لا يريد أهل المخيم من شيخهم الى طفلهم ان يكونوا حالة ماثلة امام العالم... فهم قليلو الكلام... أسفهم باد على وجوههم... لأنهم غادروا ديارهم... وسُلبت مواشيهم... وهم لا يريدون ان يصبحوا «صورة» للايجار... او «قضية» للبيع والشراء... أو قصة للمساومة... أبدا... كل الذين تراهم في هذا المعسكر... يتوقون الى الرجوع لحياتهم الهادئة... حتى وإن كانت بهم خصاصة... كبرياء بعضهم، يقول أحد السودانيين تمنعهم من الاصطفاف لتسلم مؤونة غذائية... او اعانة صحية... ولّين وجوههن صوب الشرق وأنت تتجه اليهن من الغرب... هكذا بديْن في لباس سوداني جماله في ألوانه الزاهية، وفي طريقة وضعه... شطر من الوجه مغطى تقريبا... والشطر الآخر مكشوف حيث يوضع اللحاف الغطاء بطريقة معيّنة، تخال كل مرة أنه سيميط اللثام عن رأس المرأة... لكنه لا يحدث... ولا يسقط الغطاء الذي تظنّه آيلا للسقوط... تحت شجرة مظللة جلس عدد من الرجال تبين فيما بعد أنهم مسؤولون عن المخيّم... لو لم تبادرهم بالكلام، فإنهم لا يسألونك من أنت... وهذا لكثرة الوجوه الوافدة على هذا المعسكر... كل ومطلبه... هو مخيم «أبو شوك» بالفاشر عاصمة «دارفور»... أحدث سنة 2004 حين نزح الناس من مناطق مختلفة مثل «طويلة» و«كُرمة» و«جبل سي» و«أبودلك» و«دوبو»وغيرها... 14 ألف أسرة تتعايش في هذا المخيّم، حسب ما تنبئ به بطاقات التموين... المسندة لكل عائلة حتى تتسلّم نصيبها المخصص لكل فرد منها، من ضرورات العيش... 72 ألف نسمة، يعيشون داخل هذا الفضاء... منظمات تغدو وتروح... أجنبية كثيرة... وعربية قليلة... إضافة الى المنظمات السودانية التي أخذت على عاتقها تسجيل وجودها في التاريخ... أو بالأحرى في هذا الجزء من تاريخ السودان... تجوب بنظرك وأنت تتجوّل داخل «المعسكر» فإذا بركن فيه مستشفى مصري، وآخر سعودي، فيما كان للألمان مستشفى داخل هذا الفضاء... «لا نريد معونات... ولا إحصاءات... نريد أن نعود الى ديارنا... الناس يريدون أن يرجعوا الى أماكنهم»... كان هذا كلام شيخ قبيلة، مزارع من قرية «طويلة» غرب دارفور... ثم يضيف: «نحن هنا، مهجّرون، لأن المتمردين لم يدعونا نزرع... الناس هنا فرّوا من الموت والحرب»... في مخيم «أبو شوك» أين يتعايش 72 ألف إنسان، يستتبّ الأمن... فالحكومة حاضرة (الشرطة السودانية) والأممالمتحدة تقوم بثلاث دوريات أمنية يوميا... يُدار المخيم، الذي يلتقي متساكنوه وقد جاؤوا من مناطق عديدة، بواسطة «مجلس الشيوخ» وكل يوم أربعاء «نجلس مع بعضنا في المعسكر، ونتناول كل القضايا التي تهم المتساكنين... الأمنية منها والتعليمية والصحية... والقرارات التي تهم الوضع الانساني، ترفعها المنظمات، أما الأمنية منها، فإن الأممالمتحدة تحضر معنا ونرفعها الى المنظمات»... هذا ما كشفه أحد أعضاء مجلس الشيوخ في المخيم... مضيفا أن «النقاش يكون كالآتي، كل مسؤول عن قبيلة، داخل المخيم يطرح مشكل جماعته... وتكون حكومة ولاية دارفور هي الجهة الرسمية»... المجلس يتكوّن من 25 عمدة، والشيخ وظيفته أقلّ من العمدة... هكذا أفادنا السيد محمد عبد الله جمّاع عمدة «الطويلة» من أصل 25 عمدة في المخيم... يغيب السلاح هنا في المعسكر... المواطن العادي لا يمسك سلاحا... ما هذه الحاكمية التي نرى ونشهد؟ ممثلين في كل لجنة، منها التربية والصحة والسكن والغذاء، يتجالسون ويتشاورون في الامر... بل في كل الامور... هكذا هي الحياة «السياسية» من حيث الادارة في هذا المخيم للاجئين... «نظام ديمقراطية مباشرة»... لكنها في فضاء غير طبيعي... شباب يتسكع... لا شغل له... والمرأة في المخيم مرهقة... والرجال حدّث ولا حرج... نعم، بدا المخيم، أو ما يسمّيه السودانيون المعسكر، كما المحتشد غير الطبيعي... ظرفي من حيث زمنه... لكن لا أحد يعلم متى ينتهي هذا «الظرفي»... إنه الظرفي الذي يطول... باختصار... لا أحد في هذا المخيم تراه مرتاحا... «كل الناس يريدون السلام التام لكي نعود... فنحن لم نتعوّد على السكن القريب بيننا... لم نتعوّد على السكن التماس، فكل أسرة لها بيت يمسح 10 على 10 أمتار (100 متر مربع)... في هذا اليوم، الذي تزور فيه «الشروق» المعكسر، كان هناك وفد يمثّل هذا التجمع يفاوض في الدوحة... الناس هنا ضجرت وملّت هذا الفضاء... سبع سنوات تقريبا، والجميع هنا منفصل عن بيئته... تركنا المخيم على وقع حركة سوق لبيع الحيوانات... (إبل وحمير...) وقد تعالى غُبار زاد سماء المعسكر وفضاءه... قتامة... وانعدام رؤية... فما فائدة «الديمقراطية» المباشرة، في فضاء يحلّ به متساكنوه قسرا... بعد أن هُجّروا قسريا من أماكنهم الطبيعية... أهل «دارفور» يصرّون على أن لا تكون بلادهم... أثرا بعد عين... أو أطلالا تغذّي القصص التراجيدية...