لم يكن موقف الادارة الأمريكية الأخير غريبا قياسا بمواقف أمريكية سابقة طالت بلدانا عديدة، لكن أن يركز أحد الناطقين ب«الحكمة الأمريكية» على ما أسماه ب«التضييقات الشديدة على حرية التعبير في تونس»، فذلك أمر مستغرب لسببين على الأقل: الأول: يتصل بطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية ذات التوجه المزدوج والتي لا يمكنها أن تنسحب على تونس ذات المواقف الثابتة والمؤمنة بالقوانين الدولية، بل إن مصادقة بلادنا على المعاهدات والمواثيق الدولية يكون متبوعا ضرورة بتناغم القوانين الوطنية مع المنظومة القانونية الدولية، ولا يتسع المجال هنا لتحليل الأبعاد التقدمية لعديد القوانين التي مسّت الحريات الفردية والعامة ووسعت من مجال المشاركة السياسية والمدنية، بل إنها جعلت الارتقاء بأداء المواطن التونسي عنوانا رئيسيا لمشاريع القوانين التي عرضت على السلطة التشريعية. الثاني: يرتبط بالحرص التونسي على نحت مسار تنموي لا تشوبه التبعية، بل إن الحرص الرئاسي علي استقلالية القرار الوطني معادل موضوعي لوجودنا برمته، وأي إخلال به مدخل للمس بسيادتنا. من هنا كان التأكيد على حتمية الدفاع بضراوة عن مصالحنا الاقتصادية وجعل علوية القانون والاحتكام إليه عنوانا على المواطنة الفاعلة فهل يمكن أن يواجه الاستهتار بالقانون بغير الاحتكام للقانون؟ ويبدو أن الناطق ب«الحكمة الأمريكية» له رأي مختلف، خصوصا بعد تحول السفارات الأمريكية بالخارج الى «قلاع للحرية» وذاك توجه يبرّره برنامج «الميبي» الحالم بالشرق الأوسط الكبير دون مصالح متضاربة، فهل يعقل ذلك؟ الأكيد أن الادارات الأمريكية المتعاقبة، بشقيها الجمهوري والديمقراطي لم تتخلّ في أي لحظة عن المصالح الأمريكية الحيوية، بل إن مجرد الشبهة التي قد تلحق بأحدهم تكون مدعاة للتدخل العسكري وتركيع الشعوب وتحويل الارادات الحرة الى مشاريع إرهابية وتنصيب العملاء ويكفي أن نعدّد بعض الأمثلة التي نراها دليلا قاطعا على حتمية مراجعة الادارة الأمريكية لتصورها عن العالم الحر بل ان مجرد الانحياز الأمريكي الأعمى للسياسة الاستيطانية الصهيونية يفرض على الناطق باسم الخارجية الصهيو أمريكية أن يصمت الى الأبد عندما يتحدث الأحرار عن الحرية؟ فهل أن الصمت وذاك قمة الإيمان بالعدالة الدولية في العرف الأمريكي، والذي يتجسّم من خلال الاحتفاظ بالتصويت عند المظالم، دليل على تصور سليم لعالم حر وآمن؟ وهل أن غزو العراق الذي يزن من حيث الثقل التاريخي أضعاف تاريخ النازحين الى الرقعة التي اكتشفها صدفة كريستوف كولمب دليل على إيمان بالحرية والقوانين الدولية؟ ألم يعلم العراق البشرية الكتابة في الوقت الذي أباد فيه النازحون الجدد السكان الأصليين من الهنود الحمر؟ ألم تقف الادارات الأمريكية المتعاقبة وبتواطؤ مخجل في صف الاحتلال الصهيوني متجاهلة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي يعاني من أكبر مظلمة عرفها التاريخ الحديث، ولا يمكن لاختلافنا الجذري مع حركة «حماس» الأصولية، المغذية للإرهاب أن يكون دافعا لتبرير التقتيل «الممنهج» لسكان قطاع غزة؟ وإذا أضفنا الى ذلك التاريخ «العريق» للإدارة الأمريكية في احتلال رقاع أخرى بدءا بفيتنام مرورا ببنما ووصولا الى أفغانستان والعراق والتحرّش بإيران، مع السعي المحموم الى توظيف الهيئات الدولية وتحت مسميات مختلفة لفائدة المصالح الأمريكية، كل ذلك يجعل الحديث الأمريكي عن الحريات الفردية والعامة مجرد «لغو» وفي أفضل الحالات «نكتة سمجة» لا تضحك إلا «البلّه» من المؤمنين بالشعارات على حساب مقدرات الشعوب. وأستغرب شخصيا، كيف يمكن لقوة عظمى في حجم أمريكا أن تخطئ على صعيد تمثل العلاقات البناءة بين الدول وطرق تدعيمها وذلك بالرغم من القصص التي تُحاك منذ عقود حول دور المخابرات الأمريكية في نحت القرار والموقف المناسبين؟ هذه المرة كان الموقف الأمريكي مجانبا تماما للواقع في ما يتصل بتمسك الشعب التونسي بحريته عبر تاريخه الممتد والعريق، ولا نتخيل مواطنا تونسيا واحدا كان ينتظر تصريح «الناطق بالحكمة الأمريكية» ليستفيق من غفوته ويكتشف فجأة أن حريته مسلوبة وتستدعي دعما أمريكيا لا غبار عليه.. والأغرب من ذلك الخلط الفظيع في أذهان بعض المسؤولين الأمريكان بين المناضلين الحقوقيين المتشبعين بعلوية القانون وبين «المهرولين» الباحثين عن كل أشكال الدعم المادي والذين حولوا «غباء» المانحين الى تجارة دائمة وغير مكلفة، كل ذلك على حساب الشعوب ومصائرها.. فهل يعقل أن يتحول المؤمن ب«دكاتورية البروليتاريا» الداعي الى اعتبار حقوق الانسان «كذبة بورجوازية» الى موضوع للمزايدات الاعلامية دون التثبت في حقيقة وملابسات الأمر؟ وقد تفاقمت في الآونة الأخيرة ظاهرة «الصحافيين الوهميين» وكان الأجدى بالنسبة الى الناطق الامريكي أن يكشف لنا عن الحكمة الدافعة الى استقالة قيدومة الصحافيين بالبيت الابيض، بدل ترويج الأباطيل؟؟ من جهة أخرى غير خفي على الجميع ان المواقف الأمريكية وثيقة الصلة بمصلحة ما، أمريكية الصنع، مخابراتية المنزع أحيانا كثيرة وتكفي الاشارة الى العلاقة الوثيقة وغير المخفية بين المخابرات المركزية الامريكية وبعض المنظمات «غير الحكومية» (وتلك كذبة أمريكية مكشوفة)، وفي هذا السياق ألا تعتبر مؤسسة «فورد» القائمة منذ خمسينات القرن الماضي من أهم قنوات التجسس إبان الحرب الباردة واليوم فيما يسمى الحرب على الارهاب وقد تمكنت هذه المؤسسة من زرع مراكز لها في بلدان عربية واسلامية عديدة وتتدخل في الحياة الثقافية بل انها تقوم بتمويل «أبحاث ودراسات الشرق الاوسط» بمبالغ خيالية تفوق 100 مليون دولار كل سنة، كل ذلك في سبيل اختراق العقول وتهيئة البدائل السياسية الممكنة لتجسيم السياسات الامريكية في المنطقة بعد ان سقط الجواد الخاسر المدعوم أمريكيا ممثلا في الحركات الدينية الرجعية. ألم تمول المخابرات الامريكية أكثر من 1500 ندوة حول الصحوة الدينية في ثمانينات القرن الماضي في سبيل دعم الوليد المخابراتي الشرعي؟؟ لكن بعد انقلاب السحر على الساحر وتفجيرات 11 سبتمبر الارهابية، برز مشروع الشرق الاوسط الكبير ورصدت له التمويلات الضخمة، مع تعديل طفيف في الاستراتيجية المخابراتية المعتمدة والتي تقوم على محورين رئيسيين: 1 تحويل السفارات الأمريكية بالخارج الى «قلاع للحرية» من خلال التدخل السافر أحيانا في شؤون البلد وإقامة علاقات ممتدة من النخب السياسية والمدنية وتحويل المآدب وحفلات الاستقبال الى مصدر مركزي للمعلومات، بل تحويل بعض الكائنات البشرية الى عناصر طيعة وديمقراطية لا تشوبها شائبة، دون نسيان الرحلات المبرمجة للصحافيين والسياسيين والتي تتخذ نوعا من «التبشير بالنموذج الامريكي» وبالعالم الحر. 2 التزامن بين دعوة المحافظين الجدد الى الضرب بشدة على أيدي من تسول له نفسه المس بالمصالح الحيوية الامريكية وبين التشجيع اللامشروط لعديد المنظمات «غير الحكومية» (كما تسمي نفسها) باعتبارها «قلاعا للحرية» و«مستقلة جدا» (علما ان الاستقلالية في عرفهم تقوم على هرسلة النظام القائم واصدار البلاغات التعويمية والدائمة) عند ذاك يقع ضخ الأموال في سبيل تنفيذ برامج شعارها المركزي المتناسل هو: التربية على.... الخ. وقد صدر مؤخرا كتاب هام جدا يؤرخ لدور المخابرات المركزية لفرانسيس سوندرز من خلاله على الطرق المعتمدة من قبل السي اي. إي لتوظيف الماركسيين التائبين ضد الاتحاد السوفياتي المنحل (ألا ترون انها ذات الصورة اليوم عندما يتحول يسار الأنابيب التونسي الى محفل للديمقراطية وحقوق الانسان دون ان يمر بمرحلة التربية على الديمقراطية، مع فارق طفيف عن مرحلة الحرب الباردة هو زواج المتعة في تونس بين الرجعيين من دعاة الدولة الدينية وبين يسار الأنابيب). واشار المؤلف الى ان أول نشاط للمخابرات الأمريكية افتتاح المراكز الثقافية وانشاء الكونسورتيوم الذي ضمّ الماركسيين الذين أصابتهم سياسة ستالين القمعية بالاحباط. وقد مولت نفس المخابرات في بداية الخمسينات من القرن العشرين مؤتمر برلين للحرية الثقافية حضره اكثر من 4000 مثقف من جميع أنحاء العالم غير الشيوعي وأنهى المؤتمر أعماله بإعلان «مانفستو الحرية». وكشفت النيويورك تايمز يوم 8 ماي 1967 دور المخابرات الامريكية في تمويل منظمة الحرية الثقافية وما يصدر عنها من مطبوعات، وهي ذات المنظمة التي كانت وراء عدم نيل الشاعر الشيلي العظيم نيرودا جائزة نوبل سنة 1964 ولم يفز بها الا بعدما اصبح سفيرا في فرنسا لحكومة أليندي وقبل ان تغتاله نفس المخابرات. منظمة الحرية المشؤومة هي التي كانت سنة 1971 وراء اخضاع غرنست همنغواي للتحقيق حتى أصابه الاكتئاب فانتحر بإطلاق الرصاص على رأسه... هذه عينة من «الحرية الامريكية» عبر التاريخ وما خفي كان اعظم ولو كان الرئيس الراحل كيندي حيا لأعاد النظر في مسيرة كاملة.. ونختم بهمسة أخيرة الى الناطق باسم «الحكمة الامريكية»: مصير تونس ومستقبلها لا ينحته الا أبناؤها الأوفياء، أما المتذيلون المحليون والموظفون خالصو الاجر فهم مع كل من يدفع بعيدا عن كل مبدئية او حرص على قيم او مثل كونية...