بعد الظهور الأول بمهرجان قرطاج نزل عرض «درويش درويش» ضيفا على المهرجان الثاني والأخير في أجندته الخاصة بالمهرجانات التونسية ممّا يثير أكثر من نقطة استفهام وهو مهرجان سوسة الدولي قبل الإلتحاق بدار الأوبرا بالقاهرة والتي قد تكون المكان الطبيعي لهذا العرض في ظل اختلاط الحابل بالنابل في مهرجاناتنا. «العرض» هو مراوحة بين الغناء والشعر وكلّه يدخل في «باب المسرح» هكذا عرّف جمال المداني مخرج العرض ومؤدي «دور الشاعر» في العمل وذلك من خلال لقائه ب«الشروق» ومهما تعدّدت التعريفات والانطباعات يبقى هذا العرض استثنائيا بما خصّصه من مساحة شعرية موظّفة موسيقيا زاد في خصوصيته وتميزه مراهنة شركة انتاج خاصة عليه ولو أن هذه المراهنة طبعت بمسحة من الاحتراز والذي قد يكون طبيعيا بحكم طغيان اللغة الايقاعية على لغة الشعر على الساحة الموسيقية، ويبقى العنصر الأهمّ في التفاف الموسيقي والمسرحي والمغني حول مشروع فني وان لم يكن مضمونه ليس تونسيا تجنّبا للاجترار فهو صورة عاكسة لنخب تونسية لم تقطع صلتها بالفن الراقي ووثيقة مرجعية موسيقية أدبية حدودها الابداع ودوافعها الارتقاء بالذوق العام. الذهاب إلى أبعد من ذلك رغم مظاهر مسرحة عرض «درويش درويش» سوى من خلال الديكور والذي طغى عليه التناظر في رؤية توحي بفضاء مخالف لا يسع الأجساد بقدر احتضانه للأرواح على حدّ تفسير المداني، ومرورا بالأزياء والتي أبدعت خياطتها وحياكتها وفق التصور العادي للعرض جليلة المداني والتي اعتبرت فستان درصاف هو خلاصة تأثير بلوحة تشكيلية على حدّ تصريحها ل«الشروق» ورغم أيضا الديكور الثابت على الركح الذي طغى عليه التناظر، فإن العرض كان يمكن أن يذهب إلى أبعد من ذلك على المستوى المسرحي الذي من المفروض أن يكون المحرّك وجوهر هذا العمل، فلم يقع توظيف درصاف مسرحيا رغم صفاتها التعبيرية، وجضورها الركحي وبقيت حركاتها فيها الكثير من التردّد، أما جمال ورغم صفته المسرحية بقي رهين القراءات الشعرية التي كانت مشحونة أكثر من اللازم محمّلا اللغة العربية ما لا تتحمّله من أخطاء في الاعراب وتسرع في النطق.. فكان من الممكن إيلاء هذا الدور إلى أحد الشعراء. ويتخذ جمال دورا آخر بنص إيحائي رمزي حول حياة الدرويشين أو ملامح من شخصيتهما وبراعة جمال التمثيلية قادرة على تبليغ ذلك وبكون ذلك النصّ رابطا بين الفقرات الشعرية والفقرات الموسيقية التي عكست فراغات وعدم النجاح في بعض الفترات وزاد في تعميق هذه الفجوة المسرحية الحركات الجسدية بتأثير خيال الظلّ الذي لم يستطع اخفاء عيوب الأجساد المؤدية والتي لم تمت بصلة إلى التوظيف الكوريغرافي، وكان من الممكن في أدنى الحالات تعويضها بمشاهد بصرية رمزية فتكون الخلفية شاشة تشكل تكاملا أو امتدادا للاشعار أو الأغاني المؤداة. وقد علّل جمال هذه النقائص المسرحية بقلّة الامكانيات (لا ندري لماذا إذن الدعم من شركة خاصة!) وبقصر مدّة التحضير. جمال يبرّر اجتمعت الآراء منذ عرض قرطاج على اعتبار أن النقطة السليمة في العرض تتمثل في الالقاء الشعري كذلك الأمر في عرض سوسة قد يرجع ذلك إلى تعوّدنا على الاستماع إلى الشعر بطريقة دون أخرى لا ننكر أن لقراءة الشعر قواعد ولكن لا يجرّم من يقرأ الشعر دون تلك القواعد بالصفة الدقيقة أما في مجال النطق والقواعد اللغوية فلا مبرّر لذلك عكس ما حاول جمال تبريره في لقائه ب«الشروق» قائلا: «ما المشكل لو أخطأت المهم المعنى وصل». وحول اختياره بأن يكون هو الملقي للشعر أضاف جمال قائلا: «الممثل يضيف الاحساس عندما يقرأ الشعر.. بينما الشاعر يحرص على الكلمة أكثر من الاحساس لذلك الممثل عندما يقرأ الشعر يعطي اضافة لا يوفّرها الشاعر»! «لا أتحمّل أخطاء غيري» ! هكذا علّقت درصاف الحمداني على الأخطاء اللغوية التي عكستها بعض قراءات جمال مضيفة: «أنا لا أتحمّل إلاّ مسؤولية دوري في الغناء، وإنشاء اللّه من عرض إلى آخر قد تتحسن الأمور». «على طريقة الرحابنة» ! هكذا وصف مدير المهرجان بانبهار الفرقة الموسيقية والتي شكلت تميزا في العزف وتناغما دقيقا، وشكّلت درصاف نموذجا للفنانة التي ولدت للطرب والكلمة العميقة. المساندة واجب رغم بعض الثغرات المذكورة والتي سيتداركها فريق العمل يبقى هذا العرض في حاجة إلى دعم ومساندة والتي لا تكون إلاّ بكثرة العروض لأن هذا العمل دفع للمبدعين من أجل توظيف قدراتهم الحقيقية نحو الرسالة الحقيقية للفن ويدفع للاهتمام أكثر بعروض فرجوية تقطع مع الاجترار.