-1- إنّ الشّعر، في أصل جوهره، استدراك على العالم، خلق عالم آخر على أطرافه، أو إذا استعرنا عبارات مالرو قلنا إنّ الشّعر هو أسلوبنا البشري في خلق واقع يكون غريبا عن الواقع، و لا يتأتّى ذلك إلا بابتكار لغة جديدة من شأنها أن تغيّر أسلوب حياتنا وطرائق تفكيرنا. ينبغي أن نحسّ، بعد قراءة القصيدة، بتحوّل ما يطرأ على زاوية النّظر التي من خلالها ننظر إلى العالم، ينبغي أن نحسّ بتحوّل ما يطرأ على حساسيّتنا ووجداننا... وإذا قصر الشّعر عن ذلك، يكون قد فشل في النهوض بوظيفته الأولى، أعني إعادة ابتكار الرّوح، إعادة ابتكار الفكر، إعادة ابتكار الإنسان. -2- امتدح الكثير من النّقّاد شعر ابن خلدون، حتّى إنّ البعض عدّه من عجائب الزّمان... يزري بعقود الجمان، لكنّ العلامة لم يكن ينظر إلى قصائده بعين الرضى و القبول، بل ربّما أشار في التّعريف إلى تعسّر الشّعر عليه مؤكّدا أنّه “يجد استصعابا في نظمه” ولهذا أعرض عنه، و تفرّغ للعلم. وقد استغلّ أعداؤه قعوده عن كتابته للإيقاع به، فأغروا به السلطان أبا العبّاس وادّعوا أنه لم يمدحه استهانة به و تهوينا من شأنه، وهو الذي امتدح الملوك و الوزراء من قبله، فكتب ابن خلدون عندئذ قصيدة قرأها بين يدي هذا السلطان يعترف فيها “بنضوب فكرته” و“تبلّد طبعه” مؤكّدا أنّه يقضّي اللّيل في استرفاد قريحته فلا تسعفه بما يريد، و تحدّث عن “الكلام يعتلج بخاطره” لكنّه لا يتحوّل إلى قصيدة “فالنظم يشرد و القوافي تجفل”، بل إنّه استبشع قصيدته التي تحوّلت إلى امرأة مرهاء (أي إلى امرأة غير مكتحلة تنقصها الزّينة والاحتفال) لهذا آثر الجنوح إلى التاريخ يستقرئ أحداثه و إلى كتابة “صحف تترجم عن أحاديث الأولى”. وإنّي لأزعم أنّ هذه القصيدة التي استبشعها ابن خلدون تعدّ من القصائد القليلة في تراثنا العربي التي تصوّر تعسّر ولادة القصيدة تتأبّى على الشّاعر فلا تستسلم إليه في يسر وسلاسة فيتحوّل الكلام إلى همهمة غامضة يتلجلج في الصّدر و لا تفصح عنه العبارة. -3- كان برخس يتخيّل الفردوس مكتبة كبيرة تتكدّس فيها الكتب فوق الكتب... وكان يردّد دائما أنّ متعة القارئ أكبر بكثير من متعة الكاتب ذلك أنّنا نقرأ ما نرغب في قراءته ولكنّنا لا نكتب ما نرغب في كتابته، إنّما نكتب ما نقدر على كتابته. لهذا يصرّ برخس على أن يبقى دائما في موقع القارئ المستمتع والسّعيد بنصوص الآخرين ويرفض موقع الكاتب المفعم بالغرور... يقول بتواضع جمّ “لقد أمضيت حياتي وأنا أقرأ وأحلّل و أكتب أو أحاول أن أكتب وأستمتع وقد اكتشفت أنّ هذا الأمر الأخير هو الأهم”. -4- في حوار عميق مع حسن النّجمي، يقول النّاقد المغربي عبد الفتّاح كليطو “قد يكون أفضل للشّاعر أن يقرأ كتابا عن النّبات من أن يقرأ ديوان شعر، بل يمكن للشّاعر أن يستفيد من كتب علم الآثار والبيولوجيا أكثر ممّا- يستفيد من ديوان البحتري” مضيفا “لا يمكن أن أقرأ شعرا قبل النّوم، الشّعر يقرأ نهارا لأنّه يتطلّب مجهودا سواء أتعلّق الأمر بالشّعر القديم أو بالشّعر الحديث. المجهود الذي يتطلّبه يكاد يجعل قراءته ككتابته”. وعن الكتابة في سنيّ الشّيخوخة يقول “عموما عندما يتقدّم الإنسان في السّنّ يغدو إيقاع يومه سريعا وتنقضي الأياّم بعجلة لافتة خلافا لفترة الشّباب...الملل مرتبط بالشّباب و مع تقدّم السّن يمّحي الإحساس به أو يضعف”. أمّا عن الصّداقات تحول بينه و بين الكتابة فيقول “الصّداقة أسطورة ترتبط عادة بمرحلة الشّباب، بعدها تغدو الصّداقات ثانويّة و ما يتبقّى لا يتعدّى علاقات عابرة مع أشخاص نحبّهم ويحبّوننا...أتذكّر هنا قولا لأرسطو: يا أصدقائي، ليس هناك أصدقاء”