القاهرة (الشروق) من مبعوثنا الخاص كمال الشارني لا تخطئ عين الزائر لقلعة صلاح الدين في أعلى مكان في مدينة القاهرة، تبدو مهيبة وشديدة التحصين وتحيط بها هالة من الحكايات المأساوية عن الفتن السياسية والعنف الدموي الذي عاشته مصر عبر القرون. يقول المصريون إن من يملك القلعة يملك مصر، ليس فقط لأن مدافعها كانت تشرف بطريقة محكمة على القاهرة بأحيائها الشعبية وقصورها الفاطمية والمملوكية، بل لما أحاط بها عبر التاريخ من أساطير وأحداث. القعلة لصلاح الدين الأيوبي، قاهر الصليبيين، أمر ببنائها عام 1176م لتحصين القاهرة من هجمات الصليبيين. ويقول العديد من المؤرخين إن المصريين الذين كانوا هدفا لعدة حملات صليبية، قد أسروا عددا من النورمان، فاستخدمهم صلاح الدين الأيوبي في بناء قلعته الشهيرة التي أصحبت أكثر مكان محصن في مصر كلها. ومنذ ذلك الحين كانت القلعة هي مقر الحاكم في مصر، فإن فقد السيطرة عليها أو غادرها ضاع منه الملك حتى تم بناء قصر عابدين في قلب القاهرة في القرن التاسع عشر وانتقل مقر السلطة إليه، فيما تحولت القلعة إلى أشهر سجن في العالم العربي مر منه زعماء وقادة ومثقفون، ثم إلى متحف ومزار تاريخي شهير. لكن من يدري؟ يقول المصريون، فربما ما تزال القعلة تحافظ على أسرارها التاريخية وأمجادها؟ مذبحة المماليك القلعة مدينة متكاملة وشديدة التحصين، تبدو من بعيد بقبابها الكثيرة مثل مركبة خرافية طائرة على علو كبير فوق أحياء القاهرة. تقع القعلة في الجزء الغربي من جبل المقطم، وقد كانت ترتبط به عبر جسور محكمة والبعض يقول عبر ممرات سرية حفرت في الصخر تحت الأرض، وهي إحدى الأساطير التي تحيط بهذا المكان الغريب، ذلك أن المؤرخين وعلماء الآثار أنفسهم لا يعرفون حجمها الحقيقي. وقد كشف لي الأستاذ محمد حمدي متولي وهو أستاذ تاريخ يعد دكتوراه دولة كان رافقني في عدة ريبورتاجات أن الباحثين قد اكتشفوا مؤخرا طابقا سفليا جديدا هو الرابع تحت السطح، وأنه تجري دراسة المكان لتخليصه من الماء والرطوبة وتأمينه لدخول الخبراء إليه. ويحفل تاريخ القلعة بالفتن والعنف السياسي، ففي غرة مارس 1811، استدرج محمد علي باشا المماليك الذين في مصر إلى حفل كبير في القصر لتوديع ابنه طوسون المتوجه لحرب الوهابيين في نجد، فحضروا بزينتهم كاملة وسهروا في القعلة حيث أغدق عليهم المآكل ثم دعاهم لتقدم الجيش قصد توديعه كما جرت العادة. وفي لحظات انقض عليهم حرسه غيلة فقتلوا أكثر من 500 منهم على جسر القلعة، ومن حاول منهم الفرار وقع من فوق الأسوار فتهشم. لقد وضع محمد علي بتلك المذبحة حدا لسلطة المماليك وتدخلهم في شؤون الدولة، ووطد حكمه لكنه خلف أسطورة مأساوية. ويعتقد الكثير من المصريين أن صدى صرخات أرواح المماليك ما تزال تتردد في جنبات القلعة والطرقات المؤدية إليها، وأن أرواحهم ما تزال هائمة خصوصا في الليل حيث تظهر بين أورقة القصور بأزيائها العسكرية الأصلية، أو في زنازين سجن القعلة الشهير، وهو أسطورة أخرى من أساطير قلعة محمد علي، إنما أسطورة معاصرة. سجن ومساجين أصحبت قلعة صلاح الدين اليوم من أشهر مزارات القاهرة، ومعلما سياحيا متميزا يتكون من مسجد محمد علي باشا الذي يعد أعجوبة معمارية ومن المتحف الحربي المصري الذي يجمع تاريخ مصر وخصوصا حروبها الأخيرة ضد إسرائيل وأمجاد عملية العبور الشهيرة. ورغم فتح أغلب مكونات القلعة للزوار، ما يزال فيها الكثير مما يدفع إلى الرهبة والخوف خصوصا سجنها الشهير الذي مر به الآلاف من الزعماء والمثقفين والقادة والفنانين في مصر، والغريب أننا نجد في كتب التاريخ أن عالم الدين الشهير ابن تيمية قد سجن في قلعة صلاح الدين بسبب فتاواه في مصر عام 1427 ميلاديا. ويقول مؤرخو العصر الحديث إن الخديوي إسماعيل عندما بنى قصر عابدين أمر بتحويل جزء من القلعة عام 1874 إلى سجن، لما فيها من تحصين وشدة. وبعد وفاته أمر ابنه الخديوي توفيق بتوسيع هذا السجن، فيما أمر الملك فؤاد عام 1932 بجلب خبراء في التعذيب من فرنسا لتصميم الزنازين فاكتسب سمعته الشهيرة كأحد أشهر السجون السياسية في العالم العربي خصوصا في مرحلة ما قبل الثورة. وبعد الثورة آلت مفاتيح سجن القلعة إلى البوليس الحربي وقيادة فنان التعذيب «شمس بدران» الذي حوله إلى أسطورة حقيقية في هذا المجال، ومرت على يديه أجيال من المثقفين المصريين والسياسيين وقادة الرأي إلى أن تم إغلاقه وقد تحول الآن إلى متحف الشرطة، لكن أسماء الذين مروا به أكبر من أن تنسى وما تزال عالقة بالذاكرة وما بالذاكرة من قدم. مساجين مروا من هنا يذكر الرئيس محمد أنور السادات أنه سجن في القلعة من أجل قضية اغتيال وزير المالية أمين عثمان في جانفي 1946، وقد قضى 30 شهرا في الزنزانة 54، لكنه حظي بالبراءة فيما بعد. والواقع أن سجن القلعة لم يقتصر على صنف واحد من المساجين، فقد عرف الشاعر عبد الرحمان الآبنودي الزنزانة 21، والأديب جمال الغيطاني الزنزانة 37. فيما عانى الفنان الشيخ إمام ورفيقه الشاعر أحمد فؤاد نجم طويلا من سجن القلعة الذي كان له الفضل في تأليف وتلحين أجمل أغانيهما مثل «اتجمعوا العشاق في سجن القلعة... اتجمعوا العشاق في باب الخلق، والشمس غنوة من الزنازن طالعة...» أو الأغنية الشهيرة: «أنا رحت القلعة وشفت ياسين حواليه العسكر والزنازين». وقد طال بقاء الرجلين في سجن القلعة لأن جمال عبد الناصر قرر أن لا يغادراه ما دام حيا، فلم يتم الإفراج عنهما إلا بعد وفاته. وقد مر بسجن القلعة أغلب قادة التيارات الإسلامية مثل أيمن الظواهري وقبله سيد قطب، كما مر به أشخاص معروفون بقربهم من النظام القومي مثل لطفي الخولي وابراهيم سعد الدين. أما أغرب ما عرفه سجن القلعة فهي نهاية السجانين أنفسهم من مجموعة رجال المشير عبد الحكيم عامر مثل المشرف على السجن شمس بدران وحمزة البسيونى ومحمد أبونار، الذين وجدوا أنفسهم مساجين فيه بعد النكسة، وكذلك رجال عبد الناصر بعد وفاته مثل سامى شرف وعلى صبرى وشعراوى جمعة، وتلك من غرائب وأسرار قلعة صلاح الدين. ألا يقول بعض المصريين إنها ما تزال تحافظ على أسرارها ؟