القاهرة (الشروق) من مبعوثنا الخاص كمال الشارني بعد 13 قرنا من وفاتها، ما تزال السيدة عائشة في مقامها بالحي الذي يحمل اسمها بالقاهرة القديمة تملأ قلوب المصريين خصوصا في شهر رمضان حيث يصبح ضريحها وجامعها في قلب الحركة اليومية، يتوسلون اليها لكي تجعل الحياة أكثر احتمالا في الغلاء، ولتجعل حر أوت الجهنمي أقل وطأة، ولكي تنتقم للمظلوم، وتزوج العانس وتمنح الذرية لمن حرم منها وطلبات أخرى كثيرة لا يحب المصريون أن يكشفوا عنها. ولا تقل السيدة عائشة شهرة عن السيدة زينب رغم ما يزعمه بعض المؤرخين من أنها لا وجود لها بالنسب المعروف: «عائشة بنت الأمام جعفر الصادق»، بحجة أن جعفر الصادق لم ينجب بناتا، لكن الحدوثة المصرية وغرام المصريين بآل البيت أشد قوة من حجج التاريخ، حتى أنه ثمة في القاهرة القديمة طريق تعرف باسم «طريق آل البيت» تضم مقابر وأضرحة ومقامات عدد من «أهل البيت» أهل البيت المدفونين بمصر. وتبدأ هذه الطريق في منطقة «فم الخليج» بمقام زين العابدين، السيدة نفيسة، رقية بنت علي، ابن سيرين، السيدة سكينة بنت الحسين ثم تنتهي بالسيدة زينب. أما مقام السيدة عائشة فيبقى غير بعيد في الحي الذي يحمل اسمها مثل عدة مقامات أخرى خارج الطريق، وبعد أن رأينا مقام السيدة زينب في مقال سابق، ندخل مقام السيدة عائشة. «الست عائشة» يقع مسجد ومقام السيدة عائشة في قلب الحي الذي يحمل اسمها، تحت قلعة صلاح الدين، وغير بعيد عن الأحياء الشعبية التي تتكون من الحواري (جمع حارة، أي ما يشبه زنقة عندنا في تونس). والحي لا يهدأ ليلا نهارا، وفيه حركة بشرية لا تحصى تتكون أساسا من عربات النقل الجماعي والدراجات التي تم تحويرها خصيصا لنقل الرغيف والعيش في أطباق فوق الرأس. المسجد شبه فارغ بعد صلاة الظهر، وفيه ثلاثة أعوان بوليس بزيهم الأبيض المميز، كان أحدهم يقضي صلوات متأخرة فيما ينام زميلاه باطمئنان شديد رغم سلاحيهما المعلقين في الحزام. باستثناء ذلك، تتجمع النساء من الجهة المخصصة لهن حول الضريح حيث يمكن سماع همهمات الشكوى وبكاء بعض الأطفال. عدد قليل من الرجال يتعلقون بالقفص الذي يحمي القبر، حيث نرى رسائل الشكوى المكتوبة على أوراق كراسات مدرسية كما هي العادة في أضرحة ومقامات الصالحين في مصر. ونظرا لما لاقيته من قبل من ردود غير ودية، فقد امتنعت عن السؤال هذه المرة عن مصير تلك الرسائل ومن يقرأها، وان كان أحد الزملاء قال لي ساخرا: «طبعا تقرأها المخابرات لتعرف فيما يفكر الشعب المصري». أما خارج المسجد، فكثيرا ما نسمع أحدا يقسم بالست عائشة، وحق آل البيت، فلا يقدر الطرف الآخر الا على تصديقه ما دام يقسم بالست وهو في جوارها. «الست نفيسة» عندما قررت زيارة مسجد وقبر السيدة نفيسة، قال لي سائق سيارة الأجرة الذي طاف بي أحياء القاهرة السيد فضل الرحمان عيد: «الأفضل أن نذهب اليها يوم الأحد، فهو يوم حضرتها». والسيد فضل الرحمان مصري أنموذجي، شديد التدين والايمان مثل أغلب المصريين، طيب وهادئ الى درجة تحببه الى القلب، رغم أني لا أفهم كيف يقدر على ذلك الهدوء وهو متزوج من ثلاث نساء. ومثل كل المساجد القديمة والمقامات في مصر، يغمرنا الاحساس بالخشوع والهدوء في مسجد السيدة نفيسة، فيما يقول لي فضل الرحمان ان ذلك عائد الى روح السيدة التي تمنح البركة وراحة القلب للمؤمنين. ثم كان علينا أن ننتظر ما بعد صلاة العصر لنرى حضرة السيدة نفيسة التي يقول عنها الشيخ حسن عبد الخالق أحد منظميها: «لا أحد يعرف أصلا لحضرة الست نفيسة، ولا سبب اختيار يوم الأحد، انما هي عادة حسنة نجتمع فيها للذكر وترديد الأوراد وطلب الرحمة». تاريخيا، السيدة نفيسة هي بنت سكينة بنت الحسن، وأبوها الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنه، ولدت عام 145 هجريا. كما يذكر المؤرخون أنها كانت مرجعا في العلم بالدين والفقه فأخذ عنها كل من الامامين الشافعي وأحمد بن حنبل. ويقول الرواة انها عاشت في مصر 15 عاما، وشغف بها المصريون فكانوا يشكون لها همومهم فقصدها المظلومون من أقاصي الأرض لأن دعاءها كان مستجابا. كما ينسب لها المصريون كرامات لا تحصى ولا تعد في حياتها منها شفاؤها لفتاة يهودية مشلولة أو أنها أعطت خمارها الى الناس ليرموه في نهر النيل لما جف فعاد فيضانه كما كان، بالاضافة الى كرامات أخرى يضيق بها المكان. أما اليوم، فلا تزال السيدة نفيسة ملجأ للمظلومين والمحتاجين، يتعلقون بالشبكة المعدنية التي تحمي القبر ويتوسلون اليها في صمت ساعات طوال لتحقيق الأماني.