٭ القاهرة «الشروق» من مبعوثنا الخاص كمال الشارني: لا شيء أسهل من الوصول إلى مقام السيدة زينب في القاهرة، وأي مصري تسأله قد يدلك على ثلاثة سبل للوصول، وكثيرون يتطوعون لمرافقة السائل إذا كان غريبا لإيصاله إلى «مقام الست» في الحي الشعبي الشهير الذي يحمل اسمها ويتبرك بها وتتحول فيه الحياة طيلة شهر جوان إلى مهرجان دائم من الأناشيد الصوفية والتجارة وحتى السياسة. تبعا للمعتقد الشعبي، فهي السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الضريح، بدا لي المشهد معبرا جدا: امرأة شابة بجلباب أسود ونقاب يغطي وجهها تحمل ابنتها المعاقة التي لا يتجاوز عمرها بضعة أعوام وتتعلق ببكاء مرير بشبكة الفضة التي تحمي قبر السيدة زينب، «سيدة الفقراء والمظلومين». لم تكن المرأة وحدها، بل ضمن عشرات النساء، أغلبهن يلبسن الجلابيب السوداء الطويلة، يبكين حول الضريح، يتبركن بمائه طلبا للشفاء وطلبا للعون على مصاعب الحياة من السيدة زينب، لكن من هي زينب؟ وما حقيقة ما يحيط بها من كرامات وحكايات تستعصي على التصديق؟ حب آل البيت يبدو ضريح السيدة زينب في قلب القاهرة العمراني الشعبي وخصوصا قلبها الروحي والحضاري. وعند إجراء هذا الريبورتاج، لم تكن المنطقة قد تخلصت بعد من بقايا مظاهر الاحتفال بمولد السيدة زينب التي تمت قبل شهر. تحتفل مصر كلها بالمولد ويأتيها الناس من كل جهات مصر وخصوصا أريافها، في مهرجان من المدائح والنشاط التجاري الذي يدوم شهرا، يشارك فيه الجميع من المواطنين البسطاء مثل الأسطى «فضل الرحمان عيد»، سائق سيارة الأجرة ذي الزوجات الثلاث إلى أكابر القاهرة وأغنيائها ومسؤوليها وعلى رأسهم محافظ القاهرة الذي يساهم بقسط كبير في تمويل المهرجان حيث تختلط العقيدة بالسياسة. ويتبارى الأغنياء وذوو الجاه والسلطة وخصوصا رجال السياسة في تقديم الطعام للجميع، فقراء وأغنياء يتواضعون ليأكلوا من أجل البركة على الأرض من نفس الطبق، إنما يأكلون أكلا جيدا، أفخر الأطباق واللحوم لمدة شهر. وتسمى هذه الموائد الضخمة «شادر» وهي تتم في صورة فنية بمعلقات ضخمة تعلن عنها مسبقا، وكثيرون يقصدونها لأجل البركة، «بركة الست» التي هي من بقية نسل النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع يذوب في حب آل النبي، غير أن الكثير من الدارسين لنسل النبي قد لقوا ردا عنيفا كلما شككوا في هوية صاحبة هذا المقام والقبر الذي يجله المصريون كثيرا ويلجأون إليه في أزماتهم اليومية من شكوى المرأة التي يسيء إليها زوجها إلى التي تأخر بها قطار الزواج أو الإنجاب. شكاوى حول الضريح في الداخل، ومثل كل المساجد الكبيرة في القاهرة، يبدو مقام السيدة زينب مهيبا هادئا كما لو كان معزولا بقدرة خارقة عن ضوضاء الحي الشعبي الشهير الذي يحمل اسم الست. كل شيء في الداخل يدعو إلى الخشوع والهدوء وراحة النفس والجسد، باستثناء الهمهمات المبهمة حول الضريح، حيث تنقسم القاعة بجدار خشبي مزين إلى جزأين: الأول للرجال والثاني للنساء اللاتي يحظين بمدخل خاص من خارج المسجد. والقبر محاط بشبكة من الفضة الخالصة المنقوشة بالآيات القرآنية وبعض النصوص التي تمجد آل البيت. سريعا ما تثير انتباهي عشرات أو ربما مئات الأوراق المطوية بعناية حول القبر، وأتذكر ما قيل لي عن اعتقادات الكثير من المصريين بين الفئات الشعبية من أن السيدة زينب تقوم من مماتها كل ليلة وتعقد مع بقية إخوتها محكمة تنتصف فيها من الظالمين والمتنفذين وتعيد الحقوق إلى أصحابها وتعاقب الزوج الذي ظلم زوجته وبصفة عامة، فهي مقصد النساء أكثر من الرجال. ومن السهل جدا أن تجد حول الضريح من يروي لك كيف قضى الليل باكيا عند قبرها طلبا للإنصاف من حاكم ظلمه، ثم كيف «استمعت رحمها الله للشكوى وقصفت ظهر الظالم في الدنيا قبل الآخرة». يرفض المسؤولون عن الضريح أي حديث عن فحوى تلك الشكاوى أو مصيرها. قال لي أحدهم بصرامة تضع حدا للحديث: «يابني إنت بتسأل عن أسرار الناس ليه؟ خلي الخلق يرتاحوا في شكاويهم مادام الحكومة ما بتسمعش». بركة الست وكما يحدث في قبر الحسين بالقاهرة، لا يحب المصريون من يشكك في أية معلومة تخص قبر السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الإطار، أحدث الباحث المصري فتحي حافظ الحديدي ضجة كبيرة عندما نشر في جريدة الأهرام دراسة أثبت فيها أن السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب لا يمكن أن تكون أصلا مدفونة في مصر لأسباب عديدة منها أن مكان القبر الحالي كان ترعة (بحيرة) طيلة قرون، وأن قصة حياتها في مصر ودفنها في المقام المزعوم ليست سوى خرافة ألفها مداحو الموالد والأسواق ثم لاقت تلك الخرافة هوى لدى الطبقة الشعبية الباحثة عن بركة أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم التقت مع مصالح الذين حكموا مصر حتى أن رجال السياسة وممثلو الحكومة أصبحوا أول من ينظم «الموالد الزينبية» ويستثمر فيها وفي الشعب الذي يرتادها. في المقابل، يبدو الأسطى «فضل الرحمان عيد» سائق التاكسي غير قابل أصلا للنقاش حول وجود قبر السيدة زينب رضي الله عنها في مقامها المعروف في القاهرة في الحي الذي يحمل اسمها. يقول لي بتصميم إنما بالأدب الجم للشعب المصري لي وهو يصارع زحمة المرور في المدينة العتيقة: «يا بيه دحنا عايشين ببركتها، لولا السيدة زينب والحسين كنا أكلنا بعضنا من زمان»، وهي بركة أخرى من بركات السيدة.