عندما نُمعن النظر في مسيرة بلادنا السياسية، وتحديدا منذ سنة 1987، نلحظُ أنّ هناك تشكّلا لمعطى تعدّدي مبني على قاعدة من التطور والنماء التدريجي والمستمر وعلى المراكمة الإيجابية من مرحلة إلى أخرى. ومن المهم في هذا الباب الإشارة إلى أنّ تحليل ما تمّ تأمينهُ من إصلاحات دستورية وقانونية على امتداد العشريتين الماضيتين وربط ذلك بما تمّ تحقيقه على أرض الواقع من ممارسة تعددية كفيل بإبراز أنّ منهجية مدروسة حكمت إرادة الرئيس زين العابدين بن علي وعزمه الثابت في بلوغ حياة سياسية متطوّرة للتونسيين، حياة قوامُها واقع تعددي يُعبّر عن التنوّع الموجود داخل وبين مختلف مكونات المجتمع بصفة متأنية ومتدرّجة وهادئة. إنّ الأرضية التشريعية ذات الصلة بالشأن السياسي والانتخابي، التي تمّ إقرارُها منذ سنة 1987 إلى الآن، فتحت الطريق لتعدّد حزبي وسياسي، تعدّد ألغى إلى الأبد عقلية الحزب الواحد ونفى عن الدولة منطق الهيمنة المطلقة والذي ميّزها لعقود طويلة سابقة، فاليوم هناك تسعة أحزاب وطنية تنشطُ في إطار القانون وتسعى من جانبها إلى خدمة مصلحة الوطن جنبا إلى جنب مع مختلف أطر الدولة والحكم، فآراء هذه الأحزاب ومقترحاتها وتصوراتها هي محلّ نظر وترحيب سواء من مؤسّسة رئاسة الجمهورية أو من الحكومة أو سائر الهياكل الاستشارية و التشريعية الوطنية. إنّ حالة التعددية التي تعيشها بلادنا مكّنت تقريبا كل العائلات والتيارات والتوجهات السياسية والفكرية الوطنية من التواجد ضمن أحزاب وأطر قانونية، ومنحت التشريعات تلك الألوان والأطياف من الإمكانيات المادية والمواقع ما مكّنُها من المساهمة والمشاركة في إدارة الشأن العام وصناعة القرار الوطني وخدمة الصالح العام، إنّها تعدديّة إيجابية بكلّ المقاييس ما فتئت تُوجد حركية على أكثر من مستوى وتفتح أبواب المشاركة في وجه المزيد من التونسيين والتونسيات. بقي أنّ الأحزاب عليها وفي مقابل ما منحتهُ إيّاها الدولة من فرص ومجالات وإمكانيات بفضل الرعاية الموصولة من السيّد الرئيس شخصيّا عليها أن تُحسن استثمار تلك الهوامش المتاحة، ناهيك وأنّ الرئيس بن علي يؤكّد أنّ الديمقراطية والتقدّم المنشود للحياة السياسية في البلاد قوامُهُ حزب حاكم قوي ومعارضة قوية، والقوّة هنا ليس كما قد يعتقدُ البعض قوّة الشعارات والأحلام الذاتية أو الشخصية أوحدّة المواقف وصلفها، بل هي قوّة المقترح الداعمة لقدرات البلاد في التنمية وتحقيق المزيد من التقدّم. نعم، ذلك ما هو مدعوة إليه أحزابنا الوطنية، أن تغلّب منطق العمل الجدي والبناء والمثمر، وأن تتخلّى عن الأوهام والهواجس والانكباب على النشاط والحركة وتنمية فعل الإحاطة بالشباب وتأطير الناس واستقطاب الكفاءات والنخب وحفزها على المشاركة التنظيمية والسياسية. فمن المؤكّد أنّ ذلك هو الطريق الصحيح لاستنهاض واقع العمل الحزبي، وخاصة لدى السواد الأعظم من أحزابنا المعارضة، هذه الأحزاب التي يهزّها مرّات الغرور بما مُنح لها من إمكانات ومزايا فتخطئ السبيل إمّا نُكرانا لردّ الاعتبار الذي نالتهُ أو للاعتراف الذي حازتهُ أو مطالبة بما يبدو أنّه فوق الحاجة وأكثر من القياس. تلك هي العلاقة بين التعددية والدولة والأحزاب: تعدّديّة مُعبّرة عن كلّ التوجهات، ودولة تسعى باستمرار إلى المزيد من توسيع هوامش المشاركة، وأحزاب تقدّم المقترحات والتصورات والآراء وتدعم فرص بناء كيانات حزبية قوية مؤهلة لإنجاح الانتقال إلى مراحل قادمة أكثر ديمقراطية، مراحل آتية لا محالة، لأنّها من ضمن تعهّدات وتوجهات السيّد الرئيس زين العابدين بن علي ضمن برنامجه للخماسية القادمة.