من بين المعتقدات التي بقيت آثارها عالقة في ثقافتنا الشعبية، ارتباط الحمار عندنا بكثير من القيم السلبية والمستهجنة اجتماعيا فصورة الحمار في أذهاننا مشحونة، شئنا أم أبينا، بمعاني الجهل والغباوة والسفه والعناد وسوء تقدير الأمور والعواقب، وهي أمور قد يكون مردها إلى بعض الخصائص الشكلية الملازمة للحمار كعظم الرأس وطول الأذنين والصوت المنكر. والحق أنّ هذا الأمر ليس حكرا على الثقافة العربية الإسلامية فحسب بل هو عام ومشترك وتكاد تجمع عليه كل الأجناس البشرية باختلاف منطلقاتهم التاريخية وتنوع أرصدتهم الثقافية، بل إن الأغرب من ذلك هو وجود بعض النصوص التراثية العربية هنا أو هناك تزيد من تكريس هذه الأفكار والاعتقادات المرتبطة بهذا الجنس من الحيوانات الأليفة وتمنحها طرافة وتفرّدا من ذلك مثلا ما يُنسب إلى الحمار من أنه حامل الشيطان إلى سفينة نوح أي بلغة أخرى قد حُمّل مسؤولية تواصل الشر عند الإنسان. وننقل هنا نصّا للثعلبيّ في تفسيره إذ يقول: «أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الإوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه، فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال نوح لإبليس: ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بد من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك وقد أشار الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم إلى هذه الحكاية عندما تخيّل حوارا دار بينه وبين حماره في مسألة الطوفان وذلك في كتابه: «حماري قال لي». إنصاف الحمار ومما يدعّم هذا الاعتقاد التراثي الإسلامي ما يمكن أن نجده أيضا لدى معتقدات الشعوب الأخرى في نظرتها إلى الحمار، بطريقة تكاد تعيد نفسها لولا تغير الأشكال والروافد، ففي المعتقدات الهندية القديمة يستخدم الحمار مطيّة للكائنات الشريرة مثل «نايريتا» حارس منطقة الأموات الذي ينتقل على ظهر حمار وفي مصر القديمة كان المصريون يتطيرون من الحمار الأحمر لأنهم يعتقدون أنه من بين أخطر الكائنات التي يمكن أن تعترض الروح في رحلتها إلى عوالم ما بعد الموت. لكن يقتضينا الإنصاف أيضا أن لا نقف عند هذا الحد من التأويل، فالغريب في الأمر أن المخزونات الثقافية ذاتها التي تنزل هذا الحيوان إلى المراتب الدنيا، هي التي ترفع من شأنه أيضا في أحيان أخرى ومن بين النصوص التي أنصفته وردّت إليه الاعتبار في التراث العربي القديم نجد نصوص تفسير الأحلام فالحمار في هذا النوع من الكتب رمز لكثير من القيم الأصيلة المحمودة، فحضوره في الحلم هو في الحقيقة حضور لتلك القيم، وغيابه عنها في المقابل هو غياب لها ويكفي أن ننقل هنا ما قاله ابن سيرين في تعبير رؤيا الحمار في النوم: «فإذا كان الحمار كبيرا فهو رفعته، وإذا كان جيد المشي فهو فائدة الدنيا، وإذا كان جميلا فهو جمال لصاحبه وإذا كان أبيض فهو دين صاحبه وبهاؤه وإذا كان مهزولا فهو فقر صاحبه والسمين مال صاحبه، وإذا كان أسود فهو سروره وسيادته وملك وشرف وهيبة وسلطان والأخضر ورع ودين. أما في المرويّات اليهودية فنجد مثلا قصة شمشون الجبار الذي خرج لقتال الفلستيين فوجد في طريقه حمارا ميّتا فأخذ فكه وقاتل به و الأهم من كل هذا هو أن الحمار في اليونان القديمة قد يرتقي إلى مراتب القداسة فيصبح حيوانا ذا قيمة وشأن إلى درجة أنه مقترن بديونيسوس إله الخمرة وقد يقدم قربانا ومحرقة من أجل إرضاء الآلهة، وهو ما فعله الرومان أيضا مستعملينه في قداساتهم التطهيرية. الحمار الدليل... أو شهادة الحمير يوصف الحمار كدليل في سلوك الطرقات الوعرة تحديدا، ويعرف بقدرته على تذكر الطريق التي مشى فيها ولو مرة واحدة، بل إنه يقال إن المهندسين الهنود استخدموه في فترة بناء الهند الحديثة بعد الاستقلال من أجل فتح الطرقات في المناطق الجبلية الوعرة، حيث أطلقوا الحمير في الجبال والمرتفعات واعتمدوا المسالك والمنافذ التي اتبعتها ليجعلوها طرقا، ذلك أن الحمار يتبع آليا المسلك الأسهل والأقل كلفة ومشقة من بين جميع المسالك الأخرى الممكنة وننقل في هذا قصتين طريفتين: الأولى من الحجاز والثانية من الصين يروي ابن عبد ربه في «العقد الفريد» أنه كان بمكة رجل ماجن أفسد الشباب، فكان يأخذهم إلى الجبل على حمير يكترونها فشُكي إلى والي مكة، فأرسل إليه وأتى به فقال الرجل: يكذبون عليّ، فقال الناس: دليلنا على ما نقول أن تأمر بالحمير التي اكتروها فتُجمع وترسل إلى الجبل فإنها ستقصد منزل المتهم فأمر بحمير الكراء فجُمعت ثم أرسلت، فصارت إلى منزله كما هي من غير دليل فثبتت عليه الحجة ولما أمر الوالي بالسياط لإقامة الحد عليه قال: والله ما في ذلك شيء هو أشد عليّ من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير فضحك الوالي وخلى سبيله. أما في الصين فيروى في بعض قصصهم وحكاياتهم، أن أحد الملوك أراد أن يعبر طريقا جبلية وعرة باستخدام حصان، فأشار عليه بعض المزارعين البسطاء بركوب الحمار بدلا من الحصان باعتبار أن الحمار يتأنى وهو أقل هوجا وأثبت خطوا لكن الملك أصر بعناده وكبريائه على ركوب الحصان فسقط وكاد يلقى حتفه، فكان يقول نادما متحسرا «ليتني اتخذت الحمار دليلا». وفي العصر الحالي تأكدت الحاجة إلى رعاية هذا النوع من الحيوانات الأليفة ورد الاعتبار إليه بطرق حديثة فتأسست الجمعيات المدافعة عن الحمير والداعية إلى الرفق بها وحسن معاملتها ومنها جمعية الحمير الفرنسية (1911) التي أبدى الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك رغبته في تولي رئاستها. أما في مصر فقد بلغ عدد منخرطي جمعية الحمير المصرية التي تأسست سنة 1930 خمسة وثلاثين ألف عضو سنة 1987، وكان من بين المنخرطين عدد كبير من مشاهير المجتمع مثل عميد الأدب العربي طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وسيد بدير كان رئيسها الفنان المبدع زكي طليمات، ثم خلفته الفنانة نادية لطفي وفي المغرب الأقصى تقام مسابقة لأجمل حمار سنويا وتحديدا في قرية بني عمار. اعتراف بالجميل للحمار في قليبية أمّا في مدينة قليبية «التونسية» فقد توصّل بعض الناشطين في العمل التطوعي، وبالتحديد في قطاع الطب البيطري إلى نتيجة مفادها أن الحمار حيوان يستحق كل العطف والرعاية، فهو الحيوان الذي ألف الإنسان منذ آلاف السنين وقدم إليه جليل الخدمات والأعمال طيلة تلك المدة، فبفضله قام الإنسان باختصار جهده وتوفير أتعابه، وبمعونته تمكن أيضا من القيام بعديد الأعمال الشاقة التي يصعب عليه القيام بها بمفرده، فقد كان له رفيقا في دربه ينقل له أمتعته الثقيلة ويختصر له المسافات الطويلة ويخفف عنه وعورة الطرقات ومشقة السير فيها ويحرث له أرضه ويسقيها ويحصد له زرعه.. وغير ذلك من المهام الثانوية الأخرى. تلك الخدمات الجليلة التي قدمها ذلك الحيوان المخلص الصبور للإنسان على مدى سنين طويلة تقتضي من هذا الأخير التقدير والإنصاف والاعتراف بالجميل ولو بطريقة رمزية هذا ما توصلت إليه مجموعة من الأساتذة والبياطرة بقيادة الطبيبة البلجيكية مونيك بوزان Monique Busain منذ ما يناهز خمس سنوات، فقد استطاعت هذه الطبيبة المتطوعة أن تجمع شمل أطباء تونسيين ومختصين بيطريين وغيرهم من المتطوعين من أماكن مختلفة وتوجههم نوح غاية واحدة هي العناية بهذا الجنس غير المحظوظ من الحيوانات، وقد اختارت من الأمكنة قليبية وأحوازها بالتحديد نظرا لما تكنه لهذه الجهة بالذات من الحب والإعجاب، ونظرا لما لاحظته من كثرة وجود الحمار لدى عدد كبير من العائلات في الجهة وما يقوم به من دور في الحياة اليومية لسكان المنطقة. يقول أديب صمود، وهو طبيب بيطري شاب من أبناء قليبية ومتطوع مع مونيك في حملتها الطبية: «إنّ الحملة قد نجحت إلى حد الآن في تحقيق أهم أهدافها التي وضعتها ورغم قصر المدة وقلة الإمكانيات، فإنها قد توصلت بفضل تضافر جهود كثير من الأساتذة والأطباء: كوثر الوكايلي ألفة عبيد سلمى فرشيشي أسماء غراب عادل بن حسين سارة بن الشيخ يوسف عطية ثامر بوشيمة.. توصلت إلى فحص وتقديم الرعاية اللازمة لما يقارب 700 حمار على عشر مراحل، وبالتالي فإن عديد العائلات التي تعتمد على هذا الحيوان بشكل يومي في الأعمال الفلاحية والتجارية وغير ذلك قد انتفعت بهذه الحملات الصحية البيطرية خاصة إذا علمنا أن معظم مالكي الأحمرة في قليبية وأحوازها هم من العائلات ذات الدخل المحدود وليست قادرة على الإنفاق على رعاية الحمار من الناحية الصحية أي تلقيحه مثلا ومداواته إذا أصيب بمرض أو غير ذلك... ويضيف أديب: «إنّ هذه الحملة ليست صحية وطبية فحسب بل إننا نجحنا في منحها بعدا ثقافيا، وذلك يتجلى أساسا في مساهمة جمعية الثقافة والفنون المتوسطية: فرع قليبية في تنشيط هذه الحملة من الناحية الثقافية وإعطائها بعدا متوسطيا فقد تمكنا من تنظيم أنشطة ثقافية موازية مثل معرض للصور الفوتوغرافية التي التقطت أثناء الحملة بمراحلها العشر، وكذلك مداخلة للشاعر نور الدين صمود خصصها للحديث عن الحمار وما يُروى عنه من قصص وحكايات في التراث والأدب.