هناك حالة قد تكون فلسفية في مغزاها وقد تكون طبية في معناها المادي تحدث عنها الكاتب «تايلر» وأوردها لطرافتها «كولن ولسون» في كتابه «سقوط الحضارة» عن رجل انتحر بإحراق نفسه حيّا، المهم والعهدة على «تايلر» أن الرجل اضطجع على حشية من القش وأشعل تحتها شمعة وكان ينهض من حين لآخر ويسجل ما كان يشعر به على ورقة موضوعة فوق منضدة قرب فراشه. وقد تم العثور على ملاحظاته هذه في الصباح بجانب جثته المحترقة فوق الحشية التي تحوّلت الى رماد، وقد قال في هذه الملاحظات إنه أراد أن يثبت نهائيا أن المنتحرين ليسوا جبناء، وأنه اختار هذه الوسيلة لاثبات ذلك. وهكذا اكتسبت هذه الوثيقة المكتوبة تحت حشرجات الموت أهمية أكبر مما اكتسبها الرجل ذاته الذي لم يعد يذكره أحد وربما ذهب الى مزبلة التاريخ بفكرته القائلة بأن المنتحر ليس جبانا، فهذا الاعتقاد لا يزال ساريا في الفكر والعواطف وتعاليم الأديان.. المنتحر جبان ان انتحر بلهيب شمعة أو بجحيم «القاز» وحتى لو حبّر آلاف الأوراق المزدحمة بعبارات الشجاعة عن مسيرة انتحاره فسيظل مجرّد «منتحر». ولا أدري لماذا أستحضر هذه الصورة وأنا أطالع في عدّة وسائل إعلام من حين لآخر مقتطفات من مذكرات توني بلير التي شغل بها العالم هذه الأيام. الرجل تعرض الى الرشق بالأحذية والبيض الفاسد أثناء توقيعه على نسخ من مذكراته «رحلة» حدث ذلك في مدينة «دبلن» وليس في «قندهار» أو «بغداد». أما منتقدوه فيعتقدون أن الرجل وبعد أن انتحر سياسيا وسقط من أعلى قمّة القرار السياسي في العالم أطلّ من تحت لحافه الأبيض ليقول للناس إنه كان شجاعا في مسيرته وفي موته.. وليقول في ورقته التي تركها على «المنضدة».. إن ما سيكتبه هو «انطباعات إنسانية» وليس مجرّد تبريرات في إشارة الى أخطائه الفادحة وفي محاولة لتبرير عدم احساسه بفداحة عواقب مغامرة غزو العراق.. كانت ورقة بائسة لتلطيف العبارات التي ردّدها المتظاهرون في كل عواصم العالم بأنه «مجرم حرب» وبأن يديه ملطختان بدماء الأطفال والنساء والشيوخ وأبر ياء العالمين مثله مثل «توأم روحه» (كما جاء في ذات المذكرات) جورج بوش.. «توني بلير» الذي سقط من علوّ سياسي شاهق وهو الذي كان يعدّ على العالم أنفاسه صحبة بوش والذي أبكى «الثكالى» والرجال أيضا في لحظات عصيبة على الانسانية غلبت عليها مشاهد الدماء والخراب والفوضى والأسلحة الفتاكة يريد أن يقول إنه كان شجاعا.. لقد سقط وسقطت معه بعض من أفكاره الدموية المدمرة ولم تبق سوى ارتدادات ذلك الزلزال الذي أثاره وبعض الكلمات اليتيمة عن شجاعة ومسؤولية القادة في مذكرات لا يصدقها أحد لأنها مذكرات منتحر أفلس سياسيا. من يصدق اليوم أن بلير شجاع؟ لا أحد ومن يصدق أن المنتحر ليس جبانا؟ لا أحد، ومن يصدق اليوم أن بلير ليس منتحرا؟.. لا أحد...