كان أستاذنا في مادة التاريخ بالجامعة اللبنانية الدكتور أسد رستم محبا للعلم والمعرفة أينما كان مصدرها ومقدرا للعلماء مهما كانت مللهم ونِحلُهم، ورغم أن له مكانة كبرى في الكنيسة اللبنانية التي ينتسب إليها، ورغم الجوّ الديني الذي يكتنف حياته، فإنه لم ينغلق ولم يتقوقع داخله بل كان متفتحا على الحضارة الإسلامية والجو الإسلامي الذي يتعايش معه، ومما يدل على ذلك أنه ألف كتابا علميا عنوانه (مصطلح التاريخ) تناول فيه الطريقة العلمية التي يجب اتباعها في دراسة التاريخ والتأكد من صحة معلوماته، وقد أشار في مقدمته إلى أنه استوحى هذه الطريقة من (كتب الحديث النبوي الشريف) التي يقع فيها التثبت من سلسلة السند التي تروي كل حديث ليعلموا صحته من غلطه، وقد بنى فكرته على الطرق التي اتبعها المحدثون، وقال إنه يمكن أن نقرر صحة الأخبار التاريخية أم عدم صحتها، بنفس طريقتهم، فإذا كان الحديث مرويا عن فلان عن فلان عن فلان وكانوا جميعا من الثقاة كان الحديث صحيحا، وإذا كان أحدهم غير ثقة أو مجهولا أو ممن يقدح فيه، كان ذلك الحديث ضعيفا أو غير صحيح، ورغم أن الدكتور أسد رستم مسيحي صاحب كرسي في كنيسة الروم الأرثوذكس، فإنه قد اعتمد طريقة المحدثين في التثبت من صحة أخبار التاريخ لأنه رآها جديرة بأن يُقتدَى بها في التثبت من صحة الأخبار التاريخية. ذكرت هذا الكلام تقديرا لهذا العالِم الجليل على احترامه للعلم مهما كان مصدره، بمناسبة ما قام به ذلك القس الأمريكي الذي هدد بحرق القرآن رغم أنه صرح بعدم الاطلاع عليه وأصرَّ على أنه يرفض ذلك رفضا تاما مع سبق الإصرار والترصد، والإشارة إليه هنا من باب ذكر الأشياء بأضدادها، مثل ذكر: الخير والشر والظلام والضياء والحق والباطل إلخ (و بضدها تتمايز الأشياءُ). مما أتذكره أنه قال لنا مرة: «حضرت صلاة الجمعة في أحد مساجد لبنان فسمعت الإمام يتلو في خطبته من القرآن: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ولم يكمل الآيةَ فأكملتها بصوت مرتفع: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). كما أتذكر أني سألته مرة: (ما رأيك في الإسلام؟ فقال لي بالحرف الواحد: «اسمع يا ابني كل ما يدعو إلى الخير فهو من عند الله». كما أتذكر أني وصلت يوم الامتحان الشفوي في شهادة الإجازة، متأخرا بعد انتهاء الطلبة من أداء امتحانهم، فوجدته في المعبر يهم بالخروج، ولما اعتذرت له عن التأخر لعدم علمي بتغيير وقت الامتحان، عاد معي إلى القاعة لإجراء الامتحان الشفوي، وفي الطريق قال لي: «اطرح على نفسك سؤالا وأجب عنه!» فقلت له: لعل طرح السؤال أصعب من الإجابة، فاستلطف الرد، وطرح علي سؤالا، وقبل أن أتم الإجابة، هنَّأني بالنجاح، وقفلنا راجعيْن. وأتذكر أني سمعت في ذلك الوقت أنه يجيد اللغة الألمانية إلى جانب الإنقليزية، فودعته بجملة ألمانية معناها «تصبح على خير»: «جود نخْتْ»، فأصلح لي النطق قائلا: «قُودْ إنَّخت»، والحرف الأول منها ينطق بقاف معقودة أو جيم مصرية، وهي قريبة مما يقوله الإنقليز في مثل هذه المناسبة، علما بأن الألمانية فيها حرف الخاء. وأتذكر أنه قال لنا مرة إنه سَمَّى أحد أبنائه (صلاح الدين)، وقال فيه بيتين لم يبق منهما الآن في حافظتي سوى قوله، مستخدما التورية باسم القائد المسلم (صلاح الدين الأيوبي) والقائد الصليبي (ريتشارد قلب الأسد) واسمه الشخصي (أسد رستم): ب «صلاح الدين قد سميْته وبه قد قرَّ قلبُ الأسدِ» بعد كل ما ذكرته عن هذا الأستاذ المتفتح الذي لم أذكر من مآثره إلا ملامح سريعة، أقول: شتان بين الثرَى والثريا، في تفتحه وانغلاق ذلك القس وتقوقعه الذي يشبه تقوقع الحلزون واختفاء السلحفاة في صندوقها، وانكماش القنفذ، في تهديده بحرق القرآن، رغم إصراره على رفض الإطلاع عليه. وأختم كلمتي معرفا تعريفا سريعا ب(الدكتور أسد رستم) ليدرك مَن لا يعرفه قيمته العلمية من خلال هذه الكلمة التي لخصتها مما كتبه عنه خير الدين الزركلي في (معجم الأعلام) فهو: (أسد بن جبريل رستم مجاعص، الدكتور بالفلسفة: مؤرخ لبناني من العلماء بالوثائق. ولد سنة 1897 وتوفي سنة 1965 في بيروت ودفن في «الشوير» (بلبنان) حيث ولد، تعلم في المدرسة الأمريكيةببيروت، سابقا (والجامعة في ما بعد) وتخرّج بجامعة شيكاغو، وعاد فعُيِّن أستاذا مساعدا بالجامعة الأمريكية سنة 1923 فأستاذا للتاريخ الشرقي 1927) (وبلغ ما أصدره منفردا وبالاشتراك مع فؤاد أفرام البستاني نحو 30 مؤلَّفًا ومن مؤلفاته كتاب «مصطلح التاريخ» و«الروم» الأرثذكس، في مجلدين، وكتاب: «كنيسة أنطاكية العظمى». وأضيف إلى ما ذُكر في الأعلام أنه «أحد أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية» كما ورد تحت اسمه في كتابه (حرب الكنائس) الذي (وُضع موافقا لانعقاد مؤتمر المباحث البيزنطية في دورته الحادية عشرة 15 إلى 20 سبتمبر 1958) وطبع في نفس السنة ببيروت في (منشورات الجامعة اللبنانية قسم الدراسات التاريخية). ولم يذكر صاحب (الأعلام) هذه المعلومات الأخيرة لأنه كتب ترجمته قبل إحداث الجامعة اللبنانية في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. وأتذكر أنه أهداني كتابه (الروم) وكتب لي عليه إهداء ما زلت أحتفظ به مع كتب أخرى نلتها من الجامعة اللبنانية ضمن الجائزة التي فزت بها في مسابقتها التي أقامتها بين الشعراء سنة 1959 منها كتاب «حرب الكنائس» وكتاب «بشير بين السلطان والعزيز 1804-1841. وأسأل ذلك القس في الأخير: لو أن هذا الراهب قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. (النساء 150-152) وفهم منها أنه يأمر المسلمين بالإيمان بكافة الرسل وبأديانهم، هل كان يصر على ما أصر عليه من رفض وحرق؟ ولكن شتان بين مَن يعلم ومن لا يعلم، وشتان بين مَن يبني ومن يهدم.