يوم 10 أكتوبر الجاري كان قد مرّ على ميلاد الشاعر الكبير مصطفى خريف مائة عام، إذ أنه من مواليد يوم 10/10/1910، وقد أذنَ سيادة رئيس الجمهورية في الخطاب الذي ألقاه في عيد الثقافة يوم 25 مارس من هذه السنة بالقيروان بأن تحتفل بلادنا بإحياء هذه الذكرى احتفالا لائقا بمكانته الأدبية. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الاستعدادات لهذا الاحتفال فدعا «وزير الثقافة والمحافظة على التراث»، نخبة من الأدباء والمثقفين ومَن لهم اطلاع على حياة وآثار المحتفى به، وكوّن منهم لجنة موسعة، اهتمت كل مجموعة منها بعمل يتعلق بإنجاح هذه الذكرى، واستمرت اجتماعاتهم على جميع الأصعدة حتى تم إصدار ديوانه الذي ضم جميع أشعاره التي نشرت أثناء حياته. وبذلك أمكن جمع (جمهرة شعر مصطفى خريف) وتوفيره للباحثين والدارسين ومحبي الشعر، وما زال العمل جاريا لإتمام نشر جميع أعماله النثرية قبل انتهاء هذه السنة التي خُصصت للاحتفال بذكراه. وقامت بقية اللجان بإعداد كل ما يتعلق بهذه الاحتفالات من ندوات ومحاضرات وأمسيات شعرية في نفطةوتوزر وفي بقية أنحاء الجمهورية، وقد انطلق الاحتفال الكبير بهذه المائوية يوم الجمعة 8 أكتوبر 2010 بنفطة مسقط رأس الشاعر حيث روضتُه التي ضمت ضريحه وتراثَه الأدبي بحضور المسؤولين والمثقفين والجمهور الغفير، وبمشاركة أدباء من تونس وخارجها، ونأمل أن يكون هذا الاحتفال لائقا بصاحب هذه الذكرى التي تشد اهتمام جميع أبناء تونس والأدباء في كل مكان. ومن عجائب الصدف أن تكون ذكرى ميلاد مصطفى خريف بعد يوم واحد من ذكرى وفاة الشابي، فقد جمعتهما في حياتهما صداقة ومحبة وإعجاب متبادل، وجمعتهما في هذه الذكرى الأمسية الشعرية التي رأى المنظمون إقامتها في توزر مسقط رأس صديقه أبي القاسم: وقد يَجمع اللهُ الشتيتيْنِ بعدما يظنّان كلَّ الظنِّ أنْ لا تَلاقيَا وفي نهاية ذلك اليوم 10 أكتوبر 2010 أسدل الستار على القسم الأول من هذه الاحتفالات، ولكنها ستتواصل في جميع أنحاء الجمهورية، وتُختم بحفل كبير آخر في تونس العاصمة أيام 11-12-13 مارس 2011 بمحاضرات ومداخلات يشارك فيها محاضرون من الداخل والخارج نأمل أن تكون في المستوى اللائق بمصطفى خريف. وأختم هذه الكلمة بالإشارة إلى أني طبعت بهذه المناسبة كتابا بعنوان (مصطفى خريف كما عرفته) قلت في تقديمه: (هذا كتاب صغير، عن شاعر كبير، عرفته أولا أيّام الشباب المبكر من بعيد، بين 1949/1955 ثم عرفته، بعد انقطاع، في أيام النضج من قريب، بين1959/1967 فلم تتغير نظرتي إليه في جميع الأوقات، وسأحاول، في هذه الصفحات، أن أُقدِّم ما عَلِقَ بذهني من الذكريات عنه ومعه، وقد رأيتُ أنه من العسير أن أرتِّبَها ترتيبا موضوعيا أو زمنيا، لذلك دوّنتُها كما وردت على ذاكرتي، ولم أراع في تسجيلها أيَّ ترتيب، فقد جاءت عفوَ الخاطر، وأحيانا من باب الشيء بالشيء يُذْكر، ولست أزعم أنني دوّنت عنه معلومات كبيرة وعلوما غزيرة ومعارف وفيرة يتلقاها عادة الصغير عن الكبير، ولكني كنت حاولت في هذه الصفحات أن أتذكر بعض الأشياء الطريفة التي علقت بذاكرتي عند لقاءاتي به في معابر الإذاعة أو في بعض المقاهي المجاورة لها، أو في المقهى المجاور للنزل الذي كان يقيم فيه، أو في الطريق أو في المسرح البلدي أو في بعض المطاعم، وأحيانا عندما كنت أجلس معه وقتا طويلا نتجاذب فيه أطراف الحديث في مواضيع أدبية أو حول ذكرياته مع الشابي أو الدوعاجي أو في بلاد الجريد، وهذه الذكريات العابرة بعضها قابل للنشر رغم بساطتها وبعضها الآخر مما يعرف بأدب المجالس التي لا تُذكر عادة إلا في المجالس الضيقة، وبعضها من الأدب العربي القديم وبعضها من الحياة المعاصرة عن أشخاص يعرفهم أو يعرف من يعرفهم، ولعل البعض منها تسرّب متسللا في احتشام وبعضها الآخر يمكن أن يذكر في مجالس خاصة، وقد فاتني تسجيل بعض الذكريات التي أرجو تداركها في طبعة أخرى إن شاء الله. وعند ما انتهيت من كتابة هذا الكتاب أردت أن أهديه إلى روحه بهذه المناسبة فجاء الإهداء شعرا لأنه مُهْدَى إلى شاعر. فإلى روحه الشاعرة أهدي هذا الكتاب بهذه القصيدة: سَيِّدِي مصطفى.. حياتُكَ شِعْرّ صغتَهُ من صميمِ قلبٍ رقيقٍ وأغاريدُ رائعات تهادتْ في رياضٍ يَفُوحُ منها عبير أنعشتني عطورها فهي تُحيي ذكرياتٌ عزيزةٌ هي عندي من شذاها نضدتُ أزهار َذكرى عاطراتٌ تمرّ بالبال نشوَى جئتُ أهديكَها من القلب، فاقبلْ مثل عِقدٍ من لؤلؤٍ منضودِ وفؤادٍ مُتَيَّمٍ معْمودِ تُرقِصُ القلبَ مثل لحن الخلودِ نشرتْ عطرها كنفح الورودِ كل قلب كالصخرة الجُلمودِ خيرُ ما قد عرفتُ في ذا الوجودِ أينعتْ فوق غصنها الأُملودِ تُسكِرُ الروح كابنة العُنقودِ زهراتٍ أتَتْكَ من «صَمُّودِ»! 01/10/2010 والملاحظ أني قد أضفت إلى هذا الكتاب (ملاحق) تشتمل على نصوص ووثائق لها صلة وثيقة بما ورد في ذكرياتي معه وعنه، توضّح كثيرا من الجوانب التي أشرت إليها في صلبه، وقد رأيت وجوب ذكرها في آخر هذا الكتاب لأنها قد لا تتوفر لبعض القراء، ويَعسر أن يعثر عليها الكثير منهم، مثل النقد الطريف الذي نقد به مارون عبود ديوان (الشعاع) بطلب من صاحبه، وقد كان مصطفى خريف معجبا بهذا النقد رغم تجنيه عليه في بعض الأحيان بما فيه من صواب وخطإ، وقد كان لي مع سيدي مصطفى حديث طريف عن هذا النقد الذي حدثني عن ظروف كتابته. كما ذكرت في هذه الملاحق القصيدة التي ختمها ببيتين أوصى بأن يُكتبا على ضريحه وهما قوله في آخرها: تلك الفراديس أهواها وساكنَها وأفْتَديها على بُعْدٍ وتفديني يا أهل ودِّي إذا غال الرَّدَى جسدي إلى رطيب الثرى منها أعيدوني لقد أعيد هذا الطائر إلى وكره، وها أننا قد جئنا نعوده فيه، حاملين إليه أشعاره وآثاره وحبنا الكبير.