[email protected] (1) ترتسم صورة اللاعب البرازيلي بيلي في ذاكرتنا ومخيلتنا منذ الطفولة. إنه لا يزال حاضرا كأسطورة صغيرة من أساطيرنا التي نعايشها وقد نتغذى بها في حياتنا المزدحمة, فنخرجها من دولاب الذاكرة لنحتفل بها كلعبة أو كدب قطني يضيء وحدتنا فنتلهى بها بحثا عن الأنس وعن ذرة من ذرّات الأمل الممكن في غد أجمل مزدحما بالأبطال والخرافات. فبيلي الجوهرة السوداء لا يزال قائما في بونتيون( Panthéon ) أبطالنا إلى جانب محمد علي كلاي وإلفيس بريسلي وبروس لي وجيمي هندريكس وبوب مارلي ومارلون براندو, وغيرهم من الدببة القطنية الصغيرة التي تسرد علينا ما تيسر من المسرّة وثرثرة تجعل من هذا العالم أقل قبحا وعنفا... ففي سبعينات القرن الماضي كنا حين نلعب في البطاحي حفاة نهرول وراء كرة من القماش نسمي من هو أكثر نحافة ومرونة ومن هو أكثر سمرة ب «بيلي» وقد نوزّع بقية الأسماء الأخرى «دجاي رزينو», «سقراطاس» على البقية, فيما يظل دائما إسم حارس المرمى المرسوم بين حجرين «عتوقة». (2) وفي بنتيون الذاكرة المزدحم بهذه الأساطير الصغيرة وبهؤلاء الأبطال يحدث بمرور الوقت أن تمحي صورة من صور هؤلاء الأبطال ليعوض ببطل أو أسطورة جديدة على خلفية بعض الأحداث التي تخيب الظن – على الأقل عاطفيا على خلفية مواقف قد لا نرتاح لها وفق خلفياتنا المركبة والمتشعبة ... فهذا بيلي الجوهرة السوداء الغارقة في ردهات «الإستابليشمنت» (Establishment)الكروي وأروقته المكيفة يتحوّل في رأينا من أسطورة كروية إلى كاهن من كهنة فاتكان الرياضة والأموال ومتمسك بخطاب أخلاقي مزيف ليهاجم به ابن قارته اللاتينية دياغو مارادونا ويدعو المتنفذين في عالم كرة القدم لإقصاء هذه الشخصية الأسطورة التي يعشقها الملايين في العالم. فبيلي يعبر عن دهشته لمواصلة بعض الأصوات والأقلام التغني بمارادونا رغم «التجاوزات الأخلاقية» على حد تغبيره التي اقترفها إزاء نفسه وفي حق الإعلاميين. ويعتبر بيلي مارادونا أسوة سيئة للشباب , مضيفا «لقد وهبه الرّب نعمة أساء استخدامها ورغم كل ذلك مازال هناك من يرغب في التعاقد معه ولو كانوا أكثر وعيا لما تعاملوا معه». (3) و الناظر في هذه الدّعوة , وبقطع النظر عن الشّعور بالغيرة التي ما فتئ يعبر عنها بيلي بخصوص مارادونا, فإن خطاب بيلي في حقيقة الأمر ليس إلا صوت منظمة الفيفا, وتحديدا صوت السويسري بلاتير الذي ما انفك يوجّه له مارادونا الانتقادات اللاذعة على خلفية أيديولوجية سياسية آخرها إقصاء بلاتير وعدم اعترافه بالملاعب الجديدة لكرة القدم والتي تم بناؤها في الجهة الغربية للقارة الأمريكية بتعلة الارتفاع الأرضي لهذه المناطق على مستوى سطح البحر, وهو إقصاء رأى فيه مارادونا إقصاء عرقيا وثقافيا للسكان الأصليين الذين يعيشون في هذه المناطق سواء في البيرو أو الشيلي أو غيرها من البلدان المتاخمة لهذه المنطقة الغربية. فمارادونا المتمرد دائما له الشجاعة الكافية لمهاجمة إمبراطورية العرّاب بلاتار, ولعله من الأصوات القليلة في عالم كرة القدم من يرى الأمور من زاوية نظر إحتجاجية سياسية ضد سياسة الفيفا كانعكاس خفي لسياسة المال والسوق والعولمة. (4) وقد لا يكون مارادونا في رأي بيلي مثالا يحتذى بالنسبة للشباب , وهو أمر صحيح إذا كان هذا الشباب من المتنعمين ومن أبناء الأثرياء الذين يعبرون عن أنفسهم في كرة القدم في مظهر الهولغانز وهو الجمهور الشاب الذي قد يغيب عن ذهن بيلي طبيعة أصولهم الإجتماعية, في حين أن هنالك الأغلبية الساحقة من الشباب الفقراء في أمريكا اللاتينية وفي العالم الثالث الذين يجدون أنفسهم مقصين ومهمشين من دائرة هذه الرياضة باستثناء سوق النخاسة الكروي الذي يقف وراءه كبار المضاربين الذين يشكلون هذا الإستبليشمنت الذي يعوّل على الأخلاقوية التي ينطق بها بيلي ... لكن مارادونا في رأينا ونحن لانزال شبابا في هذا العالم الفقير هو جزء أيقوني من حلمنا ومن الحلم البولفاري (نسبة إلى سيمون بولفار موحد أمريكا اللاتينية ورمز كرامتها) الذي دفع بجيفارا إلى ما ذهب إليه من أجل الحرية والإحتجاج ضد الفقر والجهل والظلم, وهو الحلم الذي جعل كاسترو شوكة في خاصرة التعجرف الأمريكي, وهو الحلم الذي دفع بنيرودا لكتابة أجمل القصائد للأجيال والشعوب الحرة, وهو الحلم الذي جعل من غابريال غارسيا ماركيز مثالا عاليا للمبدع الحر والمناضل في سبيل الكرامة والعدالة. (5) لا أذكر شخصيا صورة جديدة لبيلي إلا بلباس مدير بنك وبربطة عنق فاخرة وساعة ذهبية ثقيلة ... لا أذكر بيلي إلا وهو جالس في المنصات الشرفية... لا أذكر بيلي إلا ضيفا شرفيا في ملاعب الخليج... لا أذكر بيلي إلا مروجا إشهاريا للبضاعة الفاخرة... غير أني أرى صور ملحمة مارادونا الإنسان المحض في غلوه وسقوطه, لا أرى مارادونا إلا بطلا تراجيديا فاتنا ومفتونا... طوبي للكومندنتي دياغو مارادونا الذي أهداني سيجارا كوبيا في مقهى مارا فيلاس ِ Café Maravillas في مدريد... ذلك المقهى ذاته الذي جمعه ببيلي وزين الدين زيدان... أني أفكر جديا في إعادة ترتيب بونتيون الذاكرة.