الحياة حكايات. والناس حكايات. والصمت نفسه يحكي...بهذه العبارات لخّص الوجدان العامّ فهمه لأهميّة الحكاية...وانطلاقًا من هذا الفهم اهتمّت الشعوب بحكاياتها وألحقتها بثروتها الوطنيّة وحرصت على حمايتها من الإهمال والتلف والسرقة وسعت إلى توثيقها سمعيًّا وبصريًّا وكتابيًّا. ولدينا في تونس مخزون هائل من هذه الحكايات، تحمّس له عدد من مثقّفينا وبعض مؤسّساتنا الثقافيّة فاجتهدوا في جمعه وخصّوه ببعض التظاهرات...إلاّ أنّ هذا الجهد يظلّ في حاجة إلى دعم وتطوير...لذلك أسعدني أن أطّلع على إصدار جديد يهتمّ بالموضوع، ويتمثّل في كتاب «خرافات تونسيّة» للدكتور علي العريبي (دار سحر للنشر 2009. 278ص). يتضمّن هذا الكتاب 92 نصًّا بين حكاية وخرافة ذات نكهة تونسيّة مميزّة...وهذه النصوص ثمرة عمل ميدانيّ مع الطلبة أنجزه صاحب الكتاب أثناء عمله بالمدارس التابعة لوزارة الشباب والرياضة، وخاصّة في مدرسة بئر الباي وفي مدرسة قرطاج درمش...ولمّا كان الطلبة قادمين من جهات مختلفة فقد أتيح لصاحبنا أن يلمّ بمدوّنة حكائيّة متنوّعة تشمل مختلف جهات البلاد...وأغلب الظنّ أنّ اختيار «الخرافات» عنوانًا للكتاب ليس إقصاء للحكاية بقدر ما هو استحضار للعبارة التونسيّة الدارجة التي لا تميّز بين ما هو منطقيّ لا خوارق فيه وما هو «الحديثُ المُسْتَمْلَحُ من الكذِبِ»، كما جاء في «اللسان». وصلت هذه الحكايات والخرافات إلى الدكتور علي العريبي بلهجات رواتها من الطلبة، إلاّ أنّه أعاد صياغتها في عربيّة مبسّطة مبقيًا على الأمثال العاميّة في صيغتها الأصليّة، بما يتيح قراءة هذه الحكايات لمن يجهل مختلف اللهجات التونسيّة. وهو اختيار معقول، الهدف منه التوثيق وإيصال المتن إلى قرّاء العربيّة. إلاّ أنّي تمنّيت أن أرى الكتاب يصدر مصحوبًا بقرص مدمج، كي نستمتع بمختلف لهجات الرواة وطرائق حكيهم. فأغلب الظنّ أنّنا هنا أمام كنز معرّض للزوال، ولا فرق في ذلك بين الحكايات الشعبية واللهجات الشعبية، فهي تضمحلّ يومًا بعد آخر، وتتلاشى بتلاشي آخر حفَظَتِها وممثّليها، وكأنّها كائنات آيلة إلى انقراض. وكنت قد ضممتُ صوتي منذ سنوات إلى صوت الأستاذ عبد الرحمان أيّوب في جملة مجموعة من الأصوات الداعية إلى إنشاء مهرجان للألعاب الشعبيّة، ويبدو أنّ تلك الدعوة قد وجدت أذنًا صاغية...كما دعوت في السياق نفسه إلى دعم مهرجان تكرونة بمهرجانات أخرى خاصّة بالحكاية الشعبيّة. فللحكاية مهرجانات عديدة في جميع بلاد العالم. أمّا في البلاد العربيّة فالأمر لا يشكّل ظاهرة راسخة على الرغم من وجود بعض المبادرات العريقة. فقد بلغ مهرجان تكرونة التونسيّة دورته الحادية عشرة بنجاح. كما بلغ مهرجان تمارة المغربية دورته الثامنة، ويبدو أن التفكير متّجه إلى إكسابه بعدًا مغاربيًّا لينعقد كلّ عام في بلد من بلدان اتّحاد المغرب العربيّ، وهي فكرة جيّدة. كما خُصّت الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة بمهرجان في بيت لحم والقرى والمخيّمات المجاورة لها...إلى آخر الأمثلة القليلة. إلاّ أنّ الفداوي أو الحكواتي أو القوّال لا يمثّلون سوى جوانب معيّنة من رواة الحكاية الشعبيّة، فهم رواةٌ محترفون يروون ألوانًا معيّنة من الحكايات، بينما الحكاية الشعبيّة قد ترويها الجدة وقد يرويها الجدّ وقد ترويها الأمّ وقد يرويها الأب. لذلك فإنّ هذه التظاهرات مفيدة وتستحقّ كلّ دعم وتشجيع، لكنّها تظلّ في حاجة إلى رافد آخر. وأقترح أن يكون أسبوعًا للحكاية الشعبيّة، تشرف على تنظيمه هيئة عامّة، ولا يقتصر نشاطه على مدينة أو جهة معيّنة، بل تدور فعالياته في كلّ البلاد التونسيّة من شمالها إلى جنوبها، وتُستغلّ فيه كلّ الفضاءات بما في ذلك الساحات العامّة، كي تعود الحكاية الشعبيّة إلى فضاءاتها الطبيعيّة، وكي تعيش البلاد على إيقاع حكاياتها وكأنّها أسرة واحدة. حسنًا فعل د.علي العريبي بنشره هذا الكتاب الممتع والمفيد، فقد منحنا فرصة الترحال في مخيّلتنا الخصبة، وفرصة الحوار مع ذاتنا الغنيّة...وحسنًا فعل بتذييل مقدّمته الذكيّة بما ذهبت إليه د.نبيلة إبراهيم في أحد كتبها، من أنّ الأدب الشعبيّ ومنه الخرافات والحكايات «ليس مجرّد تعبير يحتفظ به الشعب لنفسه، بل هو صرخة عالية تدعونا إلى أن نستمع إليها، وأن نتفهّمها، وأن نتعاطف معها، فإذا فعلنا ذلك أمكننا أن ندّعي أنّنا نصنع بقدراتنا العلميّة شيئًا إيجابيًّا، يُسهم في الكشف عن نفسيّة الشعب، وما تختلج به من آلام وآمال... »