بقلم: ابراهيم الوسلاتي (مدير عام المرصد الوطني للشباب) I مدخل مفاهيمي: انّ العنف خاصيّة ملازمة للسلوك الانساني ويختلف الباحثون في تعريفه بقدر اختلاف تخصصاتهم فهو فعل ايذائي ينجرّ عنه الحاق الضّرر بفرد أو جماعة بدرجات متفاوتة. ويعتبر معجم المصطلحات الاجتماعيّة أن العنف هو الايذاء باليد أو باللّسان بالفعل أو بالكلمة وعادة ما يكون العنف اللّفظي مقدّمة تفترض حصول عنف مادي. وتربط النّظريات النّفسيّة العنف بخاصيّة العدوانيّة التي تعتبر احدى خاصيات البشريّة الدّائمة اذ يقدّم عدد من الباحثين تحليلا نفسيا اجتماعيّا لظواهر العنف باعتباره: - لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحسّ المرء بالعجز عن ايصال صوته بوسائل الحوار العادية. - تعبيرا انفجاريا عن ميول التمرّد في الجماعة من ذلك التمرّد على القوانين وتعريض الذّات لأخطار الملاحقة والعقاب - وسيلة لتصريف الحقد والكراهيّة المتراكمة ويمكن أن يكون العنف «سلوكا جماعيا»:وهومفهوم يستعمل كثيرا في مجالات علم النفس الاجتماعي الذي اهتم بدراسة سلوك الجمهور فقد لوحظ أنّ هنالك تغيّرا هامّا يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم واجتماعهم في مكان معيّن خصوصا عندما يتّسم سلوكهم بصفات غريبة تختلف كلّ الاختلاف عن الصفات الاعتياديّة التي تميّز سلوكهم عندما يكونون في حالة استقلال وانفراد. II تاريخيّة الظّاهرة: كان العنف في الملاعب قديما يعرف بالعنف الرّسمي وقد كان قائما بين الأحرار والعبيد برعاية من السلطة الرّومانيّة ثمّ ظهرت جماعات الهوليقانز وهي كلمة ايرلنديّة الأصل تدلّ على اسم عربيد يدعى باتريك هوليقانز Patrick Hooligan كان يقطن بأحد أحياء لندن في أواخر القرن التاسع عشر اشتهر باستعماله العنف في فض خلافاته مع الآخرين كما أن هنالك من يرجع أصل الكلمة الى عائلة كانت تقوم بالشّغب وتناهض حكم التاج الملكي البريطاني. ثمّ ظهرت هذه الكلمة في بريطانيا منذ سنة 1898 للاشارة الى أعمال العنف والشغب التي تحدث أثناء المباريات الرياضيّة ويقوم بها مجموعة تؤلّف بينهم روابط سيكولوجيّة ووجدانيّة تدفعهم الى التعبير بأسلوب العنف ثمّ تحوّلت الكلمة الى ظاهرة لصيقة بكلّ أعمال العنف الجماعي أثناء المباريات الرياضيّة في كرة القدم وتتّهم الفئات الاجتماعية الهشّة بكونها مصدر العنف في الملاعب اذ تلجأ لاستعمال الرياضة كذريعة لتنظيم أعمال الشغب والتعبير عن استيائها تجاه أوضاعها الاجتماعيّة، ثمّ أصبحت جماعات الهوليغانز تتكوّن من شرائح اجتماعيّة مختلفة يجمع بينها الانحياز الأعمى للفريق والتطرّف في التعبير عن هذا الانتماء. وفي أواخر الستينات ظهرت جماعات الأولترا Ultra في ايطاليا حيث اقتُبِست الفكرة من الهوليغانز الأنقليز، وتم انشاء أول أولترا في ايطاليا تحت اسم Autonomia Operaia أي القوة العمالية التي كانت لها أهداف سياسية بالدرجة الأولى حيث اغتنمت المجموعة الاضطرابات السياسية واضرابات العمال بايطاليا حينئذ، وقد استغلوا المدرجات خلف المرمى بالملعب لعقد اجتماعاتهم، وفي نهاية السبعينات كانت ظاهرة الأولترا منتشرة بشكل كبير في ايطاليا وتم انشاء أول أولترا بقوانين حضارية تنبذ الشغب تحت اسم «رانجرز» التابعة لجماهير فريق أمبولي الايطالي. الاّ أنّ هذه الجماعات انخرطت في أعمال العنف تحت تأثير الجمهور La foule التي تستوعب الفرد في جماعة انتماء فرعيّة تتحرّك وفق منطق التنافس والصّراع. III العنف وارتباطه بفئة الشباب تعتبر بعض الدّراسات أن مرحلة الشباب هي مرحلة انتقال تتميّز بالعنف وبنوع عال من الحساسيّة والتّأثّر بالصعوبات والمشاكل. وتتميّز الشخصيّة في هذه المرحلة بالحماسة الجرأة وكذلك بالاندفاع والانطلاق والتحرر والتضحية وبالقدرة على الاستجابة للمتغيرات وسرعة استيعابها، وتقبّل الجديد المستحدث وتبنيه والدفاع عنه، وهذه السمات تعكس قناعة الشباب ورغبته في تغيير الواقع الذي وجد فيه وان لم يشارك في صنعه. ولمّا كان أغلب مرتادي الفضاءات الرياضيّة هم من فئة الشباب فقد ارتبطت الظاهرة بهذه الفئة نظرا لاندفاعها في تشجيع فرقها ولسرعة تأثّرها بالخطاب الاعلامي وانخراطها السريع في ردود الأفعال لجماعات الأنداد لا سيما وأن هذه الفئة تقضّي معظم وقتها في متابعة أخبار الرياضة عموما وأخبار كرة القدم على وجه الخصوص. IV العنف داخل الفضاءات الرياضية وخارجها: تعدّ الرياضة في جوهرها أداة مثلى للتربية ووسيلة من الوسائل المحققة لاكتمال الذات وتوازنها. كما تعتبر بالاجماع أسلوبا لتهذيب الكفاءات البدنية والعقلية وللتمرّس على الحياة المدنية نظرا لما تقتضيه من بذل الجهد والمشاركة في العمل الجماعي وضبط النّفس . الاّ أنه على الرغم من اكتنازها بهذه القيم، فان الرياضة التي تمارس اليوم في اطار جماهيري وبدافع استهلاكي قوي تسير نحو زوال سبب وجودها الأصلي والابتعاد عن المبادئ الأولمبية والمثل العليا ذات الصلة الوطيدة بالتربية البدنية . ولقد بات يقينا عند المشرفين وكذلك لدى الرأي العام أن المواسم الرياضية لا تقتصر فقط على مباريات وتظاهرات ونتائج وانما هي حيّز تطفو خلاله أصناف من السلوكات اللاحضارية تطغى عليها صفة العنف اذ يعمد الشبّان وحتى من تجاوز طور الشباب الى القيام بأعمال منافية للأخلاق الرياضية من تفوّه بكلام بذيء وتشاجر وتخريب ورمي بالحجارة . لقد أصبح البعد التنافسي ورهاناته الآنية المشهد الطاغي على الساحة الرياضية فطمس بذلك كل اعتبار أخلاقي أو مرجعية قيمية . وما يقع من اخلال بالأمن العام جراء التجاوزات الجماهيرية ينم عن غياب العقلية المدنية في ذهن الأطراف المخلة التي تنساق بدافع التحمس المفرط الى تجاهل الممنوع وعدم الاكتراث بالعقوبة ، وكأن الفعل الجماعي L'acte collectif يشرّع تهميش الضوابط ويؤسس أسلوب التعبير الوحيد في وضعيات الهزيمة . وتحوّل العنف من المد ارج الى وسط الملعب أي بعد أن كان ظاهرة محصورة في الجمهور أصبح حدثا يفرزه اللاعبون والمسيرون. ولا نجانب الصواب ان قلنا ان مسؤولية ظاهرة العنف في فضاءاتنا الرياضية هي مسؤولية مشتركة تجمع بين المدربين والمسيرين واللاعبين والجمهور ولجان الأحباء والاعلام الرياضي والمنشطين على مختلف الأصعدة. ولكن الجديد هنا هو تعدد مظاهر العنف والشغب وتغير طبيعته، حيث أصبحت هذه الظاهرة تتعدى حدود الملاعب الرياضية الى الفضاءات الخارجيّة لا عند الهزيمة فحسب بل حتى في صورة الفوز فالكثير من الجماهير الرياضية يحتفلون بعد الفوز بطريقة غير حضارية عن طريق الاعتداء على الآخرين والحاق الأذى والضرر بهم أو بممتلكاتهم. V أسباب الظاهرة وتجلياتها: 1 الأسباب: تمثّل الملاعب مساحة التنفيس الكبرى عن جميع المخزونات والمكبوتات النفسيّة والاجتماعيّة وتجد حوافز ومبررات تحرّكها في الرياضات الشعبيّة وخصوصا في كرة القدم وتشكّل هذه الرياضات فضاء لالتقاء جماهير لا يرتبط فيها الأفراد بعلاقات شخصيّة أوذاتيّة وذلك ما يضمن للفاعلين أفرادا ومجموعات نكريّة Anonymat تعفيهم من المراقبة والمعاقبة. وتذهب بعض التحاليل لظاهرة العنف في الملاعب الى اعتبارها فرصة لدى الأفراد للتحرّر من ضغوطات الحياة اليومية ومن ضوابط الحياة المدرسيّة والمهنيّة والعائلية خاصّة وأنّ الفضاءات المفتوحة التي يكثر فيها الاحتكاك والعمومية والتشاركيّة تظهر فيها فرص التحرّر من كلّ أشكال الرّقابة. لقد أصبح المجال الرياضي فضاء لتفريغ الشحنات وتصفية الحسابات عبر تنفيذ استراتيجيات الأفراد والجماعات وتصريفها ممّا يخلق شحنة من التوتّر الاجتماعي يهدّد القيم والمعايير الاجتماعيّة وتعود أهم الأسباب الى: النجومية وحب الكسب المادي لدى اللاعبين. الجري وراء الانتصارات والألقاب والنتائج الفورية. عدم اعتبار بعض الأطراف لمفهوم الرياضة كمنافسة نزيهة تخضع الى قوانين يتعيّن على الجميع احترامها. تأثير بعض الصحافيين والمراسلين والمتعاونين الرياضيين بسبب تعاليقهم الاستفزازية وانحيازهم. ضعف مستوى بعض الحكام وتكرّر هفواتهم وعدم توخّي الصرامة في ردعهم. غياب متطلبات التنظيم المحكم للمباريات في بعض الفضاءات الرياضية فتور مشاركة الأسرة والمدرسة والنسيج الجمعياتي ووسائل الاعلام في بلورة مفهوم الروح الرياضية . 2 التجليات: عنف الأفراد فيما بينهم سواء كان ذلك عنفا ماديا أولفظيا وأسبابه المباشرة عديدة مثل: التدافع في الطّوابير أو الصفوف لاقتناء التذاكر والدخول للملاعب والحصول على مقاعد.... المضايقات العديدة التي تحصل للمتفرّجين من قبل الآخرين (القاء الأشياء، سكب الماء...) حبّ الظّهور والبروز أمام الآخرين واثارة الضّحك بالتعليقات والاستفزازات والنعوت للآخرين. عنف الجمهور الذي يتمّ بشكل جماعي ويتوجّه في العادة الى عدّة أطراف أهمّها: الحكم جمهور الفريق المنافس المسيرون وخاصّة رئيس الجمعيّة رجال الأمن والمسؤولون عن التنظيم داخل الملاعب ويتّخذ هذا العنف شكلا لفظيا الذي يمكن أن يتحوّل الى عنف مادي واضرار بالممتلكات العموميّة داخل الفضاءات الرياضيّة وبممتلكات الغير خارج هذه الفضاءات. VI الاعلام الرياضي ودوره في نشر الثقافة الرياضية: يقصد بالاعلام الرياضي عملية نشر الأخبار والمعلومات والحقائق الرياضية وشرح القواعد والقوانين الخاصة بالألعاب والأنشطة للجمهور بقصد نشر الثقافة الرياضية بين الأفراد وتنمية الوعي الرياضي بينهم. فالاعلام الرياضي يستجيب الى البيئة التي يعمل فيها لسبب التفاعل القائم بينه وبين المجتمع ولا يتعارض من خلال ما يقدمه من رسائل اعلاميه رياضية مع القيم والعادات والتقاليد السائدة في هذا المجتمع. وتخصّص القنوات الاذاعية والتلفزية وكذلك الصحافة المكتوبة والالكترونية حيزا هاما لرفع مستوى الثقافة الرياضية وتنمية الوعي الرياضي بين الأفراد وتعريفهم بأهمية ودور الرياضة في حياتهم العامة والخاصة. وفي ظل التقدم العلمي والتكنولوجي السريع في المجال الرياضي تبرز أهمية الاعلام الرياضي في تعريف أفراد المجتمع بما يدور من أحداث وتطورات في هذا المجال. لكن في المقابل وكما يقوم الاعلام الرياضي بنشر الثقافة الرياضية فهو يساهم أحيانا في نشر العنف بين الأفراد والجماعات. VII الاعلام الرياضي وتغذية ثقافة العنف: على الرغم من أهمية الاعلام الرياضي في نشر الوعي بين الجماهير واللاعبين الا أنّه يلعب دورا في انتشار وتنامي ظاهرة العنف في الوسط الرياضي باعتباره احد أسباب التعبئة النفسية لممارسة العنف في المجال الرياضي سواء قبل المباراة أوبعدها وذلك من خلال الكتابات الصحفيّة أو البرامج الاذاعية والتلفزية التي تستند على الاثارة والتحمّس الزائد واللّعب على العواطف وبثّ العدوانيّة التي تؤسّس للتعصّب هذا الى جانب عدم مراعاة بعض وسائل الاعلام لأهميّة نشر الثقافة الرياضيّة بين الجماهير وعدم التزامها بالحياد تجاه تحليل ومعالجة القضايا الرياضيّة فبعض التعاليق الصحفيّة من نوع: مقابلة مصيريّة ومباراة حياة أوموت واستعمال مصطلحات تحيل الى منطق الحرب من شأنها اثارة الرّأي العام الرياضي وشحنه ليكون بذلك على أهبة الاستعداد. ومن نتاج ذلك أن بعض الاعلاميين يستخدمون الوسيلة الاعلامية المخصصة لهم في تصفية الحسابات الشخصية أو تحقيق مكاسب ذاتية لهم أوزرع بذور الفتنة والتعصب بين الجماهير. لكن من جانب آخر، يمكن اعتبار هذه النظرة قاصرة أوغير منصفة، لأن الصحفي مهما أخطأ لا يتحمل مسؤولية انتشار ظاهرة العنف والشغب في الملاعب لوحده. فالعنف مرتبط بعوامل خارج الاطار الرياضي، باعتباره ظاهرة اجتماعية مرتبطة بتركيبة المجتمع ومخلفات البيئة النفسية والسيوسيولوجية التي يتغذى منها الأفراد. ختاما نقول أنّ ظاهرة العنف تمثل نتاجا اجتماعيا للعديد من المسببات، من بينها دور وسائل الاعلام، لكن الأسباب الأخرى تبقى جوهرية ومؤثرة، ولا يمكن التوصل الى حل نهائي لظاهرة العنف بالاكتفاء بمسؤولية الصحافة الرياضية في ذلك، فالظاهرة أعمق وحلها يجب أن يكون في مستوى خطورتها وعمقها . تم تقديم المحاضرة في الملتقى الرياضي العربي حول دور الاعلام الرياضي في تمتين العلاقات بين الشعوب العربية.