إذا أرجعنا عجلة الزّمن إلى ما كان من تناحر بين الإمبراطوريّتين الإسبانية والعثمانية الذي بلغ ذروته في أواسط القرن السادس عشر، ماذا نكتشف؟ سنبدأ بتقرير عنوانه: «آراء معروضة على جلالة الإمبراطور بشأن ما يمكن أن يصنعه الأسطول لإلحاق الضّرر بالعدوّ»، يرجّح بعض المؤرّخين أنّ أحد ضبّاط الإمبراطور شارلكان، رفعه إلى ملكه في صورة اقتراحات غايتها إتمام الانتصار الذي حقّقه باحتلال عاصمة تونس في شهر جويلية 1535. وقد ورد في التقرير ما يلي: «يمكن لجلالته بعد مغادرته مدينة تونس الذّهاب إلى بنزرت، ففيها ألف بيت، ولها تحصينات مرضية، ويشقّها نهر تستطيع السّفن الصّغيرة الدّخول فيه. وحيث أن قرصان المدينة لا يزالون يلحقون بصقلّيّة وبجزر الباليار الأضرار الجسيمة، فإنّه ينبغي تدمير المدينة كلّيّا حتّى تصبح غير صالحة للسّكنى». (1) لم يذهب شارلكان بنفسه إلى بنزرت، ولكنه أناب عنه أمير البلاد الحسن الحفصي لإرضاخ المدينة، انتقاما لما فعله غزاتها بالموانىء الإسبانيّة. وقد قبل الأمير الخائن أداء المهمّة اعترافا بفضل شارلكان عليه، إذ أعاده إلى العرش بعد خلعه وهروبه. وسنعرف تفاصيل ما حدث بعد ذلك بواسطة رسالة مؤرّخة في 20 ديسمبر 1535، وجّهها أوّل قائد لحامية حلق الوادي « دون برنردينو دي مندوثا» إلى الإمبراطور يفيده فيها بأنّ سكّان بنزرت ألقوا السّلاح واستسلموا للسّلطان الحفصي، فدخل المدينة مستعينا بالجيش الإسباني، وأمر بهدم أسوارها، كما سبق الاتّفاق عليه، ثمّ شنق أربعة من المتمرّدين، وطلب من السكّان تسليم جميع الأسلحة التي يملكونها، ودفع غرامة مالية قدرها عشرة آلاف فرنك.وقد دامت غمّة الاحتلال الإسباني، وتحكّمه في ميناء بنزرت أربعين عاما، ولم تأذن بزوال إلا مع انقراض الدولة الحفصية ووصول الأسطول العثماني بقيادة قلج علي. أمّا في القرون الوسطى فلم تكن بنزرت سوى ميناء صغير هادىء»، قد شهدت في مطلع القرن الحادي عشر نوعا من السّلام، لكن اجتياح القبائل الهلالية اعتبارا من سنة 1050 أعلن عن نهاية ذلك الازدهار الهشّ، إذ انهارت الدّولة الزّيريّة على نحو يرثى له، وانقسمت البلاد إلى عدّة دويلات مستقلّة، ولم تسلم بنزرت بدورها من النّزعة الانفصاليّة(2)». وفي غمرة الفوضى والانقسامات استولى عليها أحد المغامرين يدعى ابن الورد اللّخمي، وفرض على أهاليها ضريبة مالية باهظة مقابل حمايتهم من القبائل الهلالية. ولن نتوقّف طويلا عند مغامرين آخرين خرجوا عليها من البحر مثل الكردغلي واسطا مراد، أو زحفوا عليها من البرّ مثل ابن غانية، ممّن هبّت ريح الزّوال سريعا على أسمائهم وأفعالهم، فأصبحوا أثرا بعد عين. ولنرجع أخيرا إلى زمن قديم جدّا... موغل في القدم، نختم به ما ذكرنا من وقائع. يقول أحد المصادر التاريخية ما يلي : « برز دور هيبو دياريتوس في كتب الأخبار القديمة بمناسبة الحملة العسكريّة التي شنّها آغاتوكل الصّقلّي على قرطاج سنة 310 ق.م عندما نزل في سواحل إفريقيا الشماليّة، وضرب الحصار على هيبو، ثمّ اقتحمها عنوة بعد مقاومة مستميتة دامت بضعة أشهر، وإثر ذلك أمر بتدميرها في مرحلة أولى، ثم قرّر بعثها من جديد ليجعل منها قاعدة العمليّات الموجّهة ضدّ قرطاج. وبعد هزيمة آغاتوكل صارت هيبو تابعة نهائيّا لقرطاج، وساعدتها في جميع المحن. وقد كان وفاؤها لقرطاج أثناء الحرب البونيّة الأولى ( سنة 255 ق.م) سببا في تدمير أسطولها (3)». في النّهاية...لا أخفي كم تألّمت وأنا أكرّر في حديثي عبارات الهدم والقصف والتّدمير والنّهب والتّهجير، وكم كنت أبتهج كلما ذكرت النهوض والازدهار ورخاء التجارة وتحسّن الأحوال. لكنّه التاريخ ومصادره قد أنطقا قلمي بما حدث لبنزرت، وما جعلها تكبو مرّة، وتنهض مرّة، منبعثة كلّ مرّة من رمادها مثل طائر الفينيق. وإنني ما استعرضت نكبات التاريخ بمجرّد الاشتهاء، ولا كان من السّهل عليّ استعادة لحظاته المرّة، وإنّما رغبت في تذكير من يمشون في شوارع بنزرت اليوم، مزهوّين بطبيعتها ومنشآتها، بأنّ تحت أقدامهم رمادا كثيرا خلّفته الحرائق، وأخلاط تراب من أثر تدميرا الأسوار وتخريب الدّيار، وأنّها ما وصلت إليهم محافظة على بهائها وحيويّتها إلا بعزم الرجال ونضال الأجيال. لذا فمن واجبهم الاعتزاز بماضي مدينتهم وصمودها، ومن واجبهم أيضا المحافظة على هباتها الطبيعية ومكتسباتها العصريّة، فذلك سرّ جمالها وحيويّتها الباقيين على مرّ الأيّام. (1) الطاهر قيقة، بنزرت في القرن العاشر الهجري والنّصف الأول من القرن الحادي عشر، في بنزرت عبر التاريخ، الدورة الأولى 1987، الطبعة الثانية، د.ت، ص.38. (2) بنزرت تاريخ وذاكرة، تأليف مشترك، جمعية صيانة المدينةبنزرت، ترجمة حمادي السّاحلي، تونس 2002، ص.17. (3) م.ن. صفحة 11.