لا يقتصر الإبداع في مجالات الأدب شعرا ونثرا وقصّة على الأدباء من جنس الرجال وحدهم، بل ان اسهامات المرأة العربية عبر العصور في هذه المجالات كان ثريا ومتنوّعا وخاصة خلال العصر الذهبي وعصر النهضة الأدبية الحديثة. وبتصفحنا لما سجّله الرواة والقصاصون يشتدّ اعجابنا بما كان للمرأة العربية من قدرة فائقة على قول الشعر وارتجاله والتفنّن في أغراضه وأساليبه. ومن أجمل ما يطالعنا من هذه الطرائف ما حكاه الأصمعي لهارون الرشيد حينما طلب منه ان يحدّثه عن أجود ما سمعه من أخبار النساء وأشعارهن. قال الأصمعي، لقد أعجبتُ يا امير المؤمنين بثلاثة أبيات شعر لثلاث بنات عندما كنت بمدينة البصرة وقد اشتدّ عليّ الحرّ فالتجأت الى ساباط مكنوس ومرشوش بالماء وفيه دكّة من خشب فوقها شباك مفتوح تفوح منه رائحة المسك، فجلستُ على الدكّة ورغبتُ في الاضطجاع وإذا بي أسمع صوت جارية تقول: تعاليْن نطرح ثلاثمائة دينار على وجه هذا الصبوح وكل واحدة منّا تقول بيت شعر، وتكون الثلاثمائة لصاحبة البيت الأعذب والأملح فقلن حبّا وكرامة: فقالت الكبرى: عجبتُ له أن زار في النوم مضجعي ولو زارني مستيقظا كان أعجبا فقالت الوسطى: ومازارني في النوم إلا خياله فقلتُ له أهلا وسهلا ومرحبا وقالت الصغرى: بنفسي وأهلي من أرى كلّ ليلة ضجيعي وريّاه من المسْك أطْيبا وهنا نزلتُ يا أمير المؤمنين عن الدكّة وأردتُ الانصراف وأنا معجب بما سمعتُ، وإذا بالباب يفتح وجارية تسلمني ورقة كُتب عليها (نُعْلمُ الشيخ أننا تراهنّا على ثلاثمائة دينار تكون لصاحبة البيت الأعذب والأملح وقد جعلناك حكما بيننا فاحكم بما تراه والسلام) فقلتُ للجارية عليّ بدواة وقرطاس فجاءتني بدواة مفضّلة وأقلام مذهبة فأنشأت أقول: أحدّث عن خُود تحدّثن مرّة ثلاث كبكرات الصحارى جحافل خلوْن وقد نامتْ عيون كثيرة فبحن بما يُخفين من داخل الحشا فقالتْ عَروب ذات عزّ غريرة عجبتُ له أن زار في النوم مضجعي فلمّا انقضى مازخرفتْ وتضاحكتْ وما زارني في النوم إلا خياله وأحسنتْ الصغرى وقالتْ مجيبة بنفسي وأهلي من أرى كلّ ليلة فلما تدبّرتُ الذي قلن وانبرى حكمتُ لصُغراهن في الشعر أنني حديثَ امرئ ساس الأمور وجرّبا حللْن بقلب للمشوق معذّبا من الراقدين المشتهين التغيّبا نعم واتخذن الشعر لهوا وملْعبا وتبسمُ عن عذْب المقالة أنْسبا ولو زارني مستيقظا كان أعجبا تنفّست الوسطى وقالت تطرّبا فقلتُ له أهلا وسهلا ومرحبا بلفظ لها قد كان أشهى وأعذبا ضجيعي وريّاه من المسك أطيبا لي الحكْمُ لم أترُكْ لذي اللبّ معْتبا رأيتُ الذي قالتْ جميلا وأصوبا ثم إني يا أمير المؤمنين سلّمتُ الرقعة الى الجارية فصعدتْ الى الأعلى وإذا بي أسمع صياحا ورقصا وتصفيقا، فنزلتُ على الدكة وأردت الانصراف وإذا بالصغرى تنادي وتقول: أجلس يا أصمعي ان خفي علينا اسمك فما خفي علينا شعرك، وقد خرجتْ بطبق من الفاكهة والحلوى وصرّة فيها ثلاثمائة دينار وقالت: هذا المال صار لي وهو مني اليك نظير حكمك الصائب. وهنا قال أمير المؤمنين هارون الرشيد للأصمعي: لماذا حكمتَ للصغرى؟ فأجابه: إن الكبرى قالت إنه زار مضجعها في النوم وهذا محمول معلّق على شرط قد يقع وقد لا يقع، وإن الوسطى قالت إنه مرّ بها طيف خيال في النوم فسلّمتْ عليه ولم تزدْ على ذلك، أما الصغرى فقد ذكرتْ أنها ضاجعته وشمّتْ منه أنفاسا أطيب من المسك وفدتْه بنفسها وأهلها ولا يُفدى بالنفس الا من هو أعزّ من النفس، فقال هارون الرشيد: أحسنتَ يا أصمعي وقد أمرتُ لك بثلاثمائة دينار، فكان الأصمعي يقول: لله درّك من شعر أخذتُ في التحكيم به ثلاثمائة دينار وفي روايته وحكايته ثلاثمائة دينار.