ما معنى أن يكون الانسان مثقفا في هذا العصر؟ أهو الاخذ من كل شيء بطرف كما يقال سابقا في تحديد مفهوم الثقافة؟ وهل أصبح من الممكن ان يحيط المرء ولو سطحيا بكل علوم ومسائل عصره الفنية والتقنية والاجتماعية والادبية وغيرها مما لا يحصى ولا يتوقف عند حد اذ لا يكاد يمر يوم أو ساعة لا تسجل فيهما اكتشافات واختراعات وتصدر كتب ونشريات تعجز وسائل الاعلام سواء أكانت حديثة أو تقليدية عن نقل أخبارها أو حتى ذكرها فما بالك بالتعريف بها وانعكاساتها ايجابا وسلبا على الانسان والطبيعة والكون. اعتقد كذلك ان الثقافة بهذا المفهوم الموسوعي لم يتسن ادراكها في اي عصر ومصر رغم محدودية علوم ومعارف البدايات الانسانية وفي العصور الاولى والمتوسطة والتي سجل التاريخ بعض أسماء علمائها الكبار في مختلف الحضارات اليونانية والبابلية والفرعونية والفارسية والرومانية والعربية وغيرها من أمثال أرسطو وأفلاطون وأبو قراط مرورا بالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون... قد يكون الواحد منهم بارزا في العلوم الطبية والفقهية والفيزيائية والادبية والفلسفية والفلكية وما الى ذلك من اهتمامات وحاجيات محيطه وعصره الا انهم جنحوا الى التخصص في أحد أو بعض تلك «الثقافات» وهو ما تفرضه طبيعة عقل الإنسان وذاكرته ووسائله واحتياجاته. لقد كان المثقف في العرب قديما وحتى بداية انتشار الاسلام هو الشاعر والمحدّث البليغ والراوية لأيام العرب ووقائعهم والكاهن المدّعي بالاطلاع على الغيب فجاء القرآن الكريم بلسان رسول أمّي ليبرز تفوق واعجاز الرسالة السماوية ولدحض الكهانة وتصحيح ما يتعلق بمفهوم الالوهية والعبودية والأفضلية والانسانية عامة من شوائب ونوازع ضيقة تكرّس الطبقية والفردية والمصلحة العاجلة. وفتح الاسلام أبوابا أخرى للعلوم والمعارف تعلقت أساسا بجوانب دينية فقهية لكنه تجاوزها بحكم الفتوحات الاسلامية مشرقا ومغربا الى اهتمامات أخرى فرضتها الحاجة ومارسها العقل بحكم الحث على التعلم والاستفادة من المعرفة أيا وأينما كانت «اطلبوا العلم ولو في الصين» واطلبوا العلم من المهد الى اللحد». وبالعودة الى عنوان هذا المقال يتواصل السؤال حول مفهوم المثقف العصري أمام الكمّ الهائل من المعارف قديمها وحديثها رغم تعدد الوسائط العلمية والاعلامية والثقافية ومن أهمها أيسرها وأقربها منا جهاز التلفاز هذا الذي لا يكاد يفقده بيت ويضم آلاف القنوات والمحطات والاقمار الصناعية التي تتحدث بكل اللغات واللهجات وفي شتى المواضيع والأخبار، فعسى ان يكون المثقف العصري اليوم هو المتابع لأكثر تلك البرامج المختلفة؟ ولكن نظرة عجلى على واقع ما يبثّ ويشد أغلب النظارة تؤكد المكانة الاولى للبرامج الرياضية والغنائية والدرامية والاخبارية، فهل تكفي هذه البرامج لبناء ثقافة متينة؟ صحيح ان عديد البرامج تهتم او تختص بمواضيع فكرية وعلمية وصحية وتاريخية واجتماعية وفنية الا ان نسبتها وعدد متتبعيها لا يقاسان مقارنة بما يشاهد. ويستحوذ على اهتمام الاغلبية ولعل ذلك ما جعل صفة المثقف اليوم تطلق على أكثر الناس إلماما بالرياضة او الغناء وما يصدر من أخبار عن الحروب والكوارث. إن حداثة مثقف اليوم أفقية وسطحية وغير ثابتة ولا مؤسسة الا لمَن اختار الاختصاص في ميدان دون آخر وفي منهاج تعليمي ودراسي وهل يتطابق مفهوم التعلم والدراسة مع مفهوم الثقافة؟ إننا أمام واقع لا يعترف بتعدد الثقافة ولا يتيحها والأسوأ من هذا أن البرامج التعليمية المدرسية والجامعية انساقت في هذا التيار فركزت على الاهتمامات الحينية للناس وكذلك تفعل وسائل الاعلام عندنا على ضوء ما فتئ يتكرّس من غياب الكتاب الثقافي الجاد الذي يعاني من مختلف الصعوبات طباعة ونشرا وتوزيعا. في حين أن الدور الأساسي والأهم الموكول الى هذه المؤسسات التعليمية منها بالاخص هو تكوين العقل «المثقف» فتربى فيه الطرق الموصلة الى التفكير الصحيح والسليم فهما ونقدا وخلقا كما تصقل وتشحذ ملكات الذائقة والابداع والفنون فيتحسس المتلقي بوارق الجمال والافتنان بما يثير مشاعر الرقة والألفة والابتهاج. إن الثقافة الحق هي ثقافة التفكير الجاد والقويم كما ان الحداثة الامثل هي القدرة على استيعاب ما يحدث حولنا ويمس حياتنا من قريب او بعيد والتصرف ازاء ذلك بحكمة واقتدار وحسن خلق، وهذا ما يتوجب على المدرسة والجامعة والاعلام بكل وسائلها أن تُمهّد اليه وتحث عليه.