صحيح اننا تعودنا بالثنائيات في حياتنا وهذا الأمر ليس بغريب لأن لكل شيء نقيضه وهو ما أثبته العلم إلا أن بعضها قد يخرج عن المألوف نظرا لانتشار بعض الظواهر في المجتمعات باختلاف تقدمها العلمي، ولا يمثل المجتمع التونسي الاستثناء برغم التطور الذي شهده مؤخرا. إلا أن ما يلفت الانتباه هو تغير نوعية مرتادي «العزّامة» والعرافين الذين راجت بضاعتهم وغلت أسعارهم وكثرت أيضا ضحاياهم فلم يعد من المدهش أبدا أن ترى مثقفا في طابور انتظار «صاحب الكرامات» الذي يعطي الوصفة «السحرية» لحل كل المشاكل والتي غالبا ما تتمثل في بعض الزواحف أو الأعشاب والتي توجد في «صيدليات» سوق البلاط. وفي جولة في هذا السوق اتصلنا بأحد العشابين وهو السيد شوقي الذي أفاد أن «كل الفئات تزورني لشراء الوصفات من رجال ونساء وأغنياء وفقراء، جميع أنواع البخور من «وشق وداد» و»حب رشاد وسينوج» لحل أزماتهم ومشاكلهم ف»العشاب» مثل الصيدلي تماما الذي يوفر الدواء، نحن أيضا نوفره، علاقتنا «بالعزامة» تتحدد في الوصفة الطبية «كأم البوية» و»الفكرون» و»شوك القنفود» وغيرها من وصفات خاصة بالعجز الجنسي والأعصاب وتسهيل الانجاب. فمثلما يوجد دواء للجسد وللروح أيضا دواؤها في تونس يوجد الكثير من هؤلاء الذين لهم القدرة النفسية والجسدية لتقديم الاضافة إلى الآخر، قد تضيق السبل بأحدهم ويتلقى علاجا ناجعا فالعراف بمثابة الطبيب النفسي». على أية حال قد يتخذ بعضهم شعار «كان ما جاء الدرويش ما نعيش» ولا أحد ينكر فضل هؤلاء على الفئات غير المحظوظة رغم ان موجة غلاء الأسعار شملتهم أيضا وأصبحت الوصفة الواحدة تتكلف بسعر ثماني جلسات مع اخصائي في علم النفس. ولمعرفة رأي جميع الأطراف صرّح الدكتور ياسين بن الشيخ أخصائي في علم النفس أن لظاهرة الشعوذة «أسبابا عديدة ومتشعبة كثيرا نظرا لاختلاف الاعتقادات التي ترى بعضها ان الاخصائي النفسي يعطي دواء قد يضر ولا ينفع بينما «الحكيم» أو العراف يعالج بالأعشاب أو غيرها من الأشياء قد لا تضر إن لم تنفع علاوة على قدرته على فعل أشياء تعتبر خارقة أحيانا، إضافة إلى الافكار المسبقة التي تسيطر على البعض وهي ان كل من يقصد الطبيب النفسي هو «معتوه» ضرورة ثم ان الوسط الاجتماعي أو العائلي له دوره أيضا فهناك من تعودت عائلته على ارتياد منازل المشعوذين وهناك من ينصح أبناءه بالطبيب، أما الأسباب فكثيرة مثل الأمراض النفسية بجميع أنواعها والاجتماعية والعائلية والعاطفية وأيضا الجنسية فالأسباب متنوعة ولا يمكن حصرها. وربما يمكن أن يكون رأي علماء الاجتماع أكثر وضوحا ولهذا اتصلنا بالأستاذ الدكتور خميس طعم اللّه رئيس قسم الاجتماع بجامعة تونس الذي فسر ان «الشعوذة ظاهرة اجتماعية» كلية وكونية وليست حكرا على مجتمعات العالم الثالث دون سواه وتوقف على دراستها جميع علماء الاجتماع والنفس والفلاسفة وكل تطرق إليها من زاوية مختلفة ولا يمكن طمسها أو الاستغناء عنها وهي ظاهرة مجتمعية تستحق الملاحظة والتدقيق وترجع إلى العصور القديمة قبل أن يتطور العلم وكانت هناك كوارث طبيعية وانسانية وأخلاقية. وترجع هذه الظاهرة إلى الجهل والأمية اللذين تطورا أيضا بتطور المجتمعات بعد أن كانت المجتمعات منغلقة على نفسها وقد تكون بعض الأشياء صعبة الفهم قديما فإن هناك من يقصد ذلك الشيخ الكبير والطاعن في السن الذي توجد لديه الراحة والطمأنينة، ويمكن أن ينجح العلاج النفسي التقليدي مرة لينتشر الخبر ويروج لدى كل الفئات وتثق به إلا أن ما يقدمه ليس حقيقة ثابتة. ثم ان المجتمع يتطور والعلم والجهل كذلك يتطوران ففي فرنسا 3 أميون وفي أمريكا 20 مليونا، وأظن ان هذه الظاهرة تتطور في غياب الفعل الاجتماعي في المجتمع فبقدر ما يتطور الغنى يتطور الفقر أيضا وتحوم الشعوذة دائما حول الفئات الأقل حظا بحكم أنها تنمو بحكم النمو السريع للمجتمعات ولا يمكن للفئات الميسورة أن تحافظ على بذخها وقدرة استهلاكها ومكتسباتها إلا بحضور الناس الأقل حظا والأكثر حاجة وفقرا وهي من مميزات المجتمعات الرأسمالية فكلما تعلّم الانسان وانشغل وأصبح له مردود مالي إلا وكان له الاختيار السليم وفي المقابل يقصد النوع الآخر من يعتقدون فيهم الحكمة والمعرفة وستبقى هذه الظاهرة موجودة في المجتمعات التي لن تقدر على أن تعدل اجتماعيا، فمن المعقول جدا أن يقصد من لا يقدر على عملية جراحية تتكلف بمليونين من يرضى ب10 دنانير، وبالتالي وجب اعتبار الانسان كعامل اجتماعي وليس اعتباره كوسيلة والابقاء عليه في مرتبة أقل من المطلوبة فسيقدر حينها الارتقاء بمستواه العلمي والمعرفي والابتعاد عن الظلاميات». ويضيف الدكتور طعم اللّه من جهة أخرى أيضا ان «هذه الظاهرة أحيانا ضرورية، فحينما نقلق أو نمل نقصد ذلك الشيخ فنحس بالراحة وعلاج لأشياء غير موجودة، ثم ان المجتمعات شبه الصناعية والصناعية وما بعد الصناعية تطورت رموزها الثقافية والشعوذة رمز ثقافي يعين الفئات الأقل حظا ومحدودة الآفاق التي لا يستطيع شبابها ان يجد العمل والترفيه والسياحة ومستوى العيش المرغوب والشعوذة أحسن من الانتحار أحيانا أو يشرب سموما تفضي إلى عوالم أخرى، وليس للشعوذة دواء ما دام الدخل والأجور والتعليم حكرا على فئة دون أخرى».