تونس في عصر تكثر فيه الضغوط النفسية جراء اعباء العمل والازمات المالية والالتزامات العائلية وسرعة ايقاع الحياة وتعقيداتها، قد تبدو الاجابة ب«لا» على سؤال هل زرت طبيبا نفسيا امرا غريبا، ففي حين تعج عيادات الاطباء النفسيين بمرضى يأتون من كل صوب وحدب وتفيض «أجندا» الطبيب بمواعيدهم لاسابيع مقبلة، ينكر الآخرون زيارتهم لطبيب نفسي ويرتبط عندهم ذلك «بالجنون». مفاهيم اجتماعية وثقافية مغلوطة عن «الجنون» وعلاجه بالشعوذة ساهمت في جعل خيط الثقة بين الطبيب النفسي والمجتمع رفيعا جدا. التكلفة العالية لجلسة الطبيب، ارتفاع ثمن ادوية الامراض النفسية وتركيز بعض الاطباء على العلاجات الدوائية.. كلها اسباب زادت في عزوف المرضى عن الطبيب النفسي ما جعل الطوابير تكاد لا تنتهي امام مكاتب المشعوذين والمشعوذات. «لست ادري هل سأملك الجرأة لاتخطى الباب وألقى الطبيب في الداخل.. فيتفحصني ويكتشف في نهاية المطاف انني «مجنون» هل ستبدأ رحلتي بمحاولة كسر حاجز الصمت وتنتهي بي بين جدران مستشفى للامراض العقلية؟» اسألة دارت برأس كريم (موظف) نطقت بها ملامحه وهو في قاعة جلوس بعيادة طبيب نفسي، ينتظر دوره او يتمنى ان يطول به ذلك. قطعنا عليه صمته وسألناه عن سبب وجوده في هذا المكان وعلاقته بالطب النفسي فقال: «لم اكن اعلم انني بحاجة لطبيب نفسي قبل ان يشتد بي ذلك لدرجة انفجار الصمام، فقد خسرت خطيبتي واثرها عملي ودخلت في سلسلة من الازمات النفسية الى ان نصحني صديق بزيارة طبيب نفسي وجدت ضالتي وسرعان ما خفت آلامي وارتفعت معنوياتي وابعدت عني شبح الافكار السوداوية التي طالما ارقتني وحالت دوني ودون النوم الهنيء. حنان (22 سنة) تؤكد على اهمية زيارة الطبيب النفسي عند الحاجة «استمرار المشكلة يؤدي الى تراكمها ويسبب اشكاليات كثيرة قد تترسب في النفس لتخلف عقدا كثيرة. في حياتنا نواجه العديد من الصعوبات والضغوطات القوية، ولا عيب في زيارة الطبيب الذي قد يكون طوق النجاة». وتستدرك «لكن البعض يجد الذهاب الى الطبيب النفسي امرا معيبا وسرا خطيرا لا يجب البوح به حتى للمقربين والاصدقاء». محمد (31 سنة) لجأ الى الطبيب النفسي مرة واحدة سرا، وهاهو يعيدها ثانية، اثر ازمة عاطفية كانت اكبر من ان يتحملها، خلفت اهتزازات نفسية شكلت خطرا على علاقاته العائلية والاجتماعية.. «الضغوطات التي نعاني منها في حياتنا اليومية تدفع الشخص للاصابة بالاكتئاب واليأس.. حينها لا ملاذ له سوى الطبيب النفسي وهذا ما حصل معي» وعن النتائج قال «الحمد لله، زيارة الطبيب والحديث معه اشعرني بالراحة وتخلصت من العديد من الافكار السلبية التي كانت تكبلني. عديد التونسيين يعانون من اكتئاب ومشاكل نفسية ولكن قليلون هم من يقررون زيارة الطبيب النفسي واقل منهم من يعترف بالاستعانة به». لسنا مجانين لنزور طبيبا نفسيا لم يكن بالمفاجىء ما لاقيناه من ردة فعل بعض المستجوبين، حين اجابوا عن سؤالنا حول علاقتهم بالطبيب النفسي ب«لست مجنونا لازور طبيبا نفسيا» فالذهاب الى عيادات الطب النفسي طلبا للعلاج على ايدي المختصين في المجال، تهمة بالجنون عند هؤلاء وغيرهم من التونسيين. ويقول عماد (طالب): «ان الغريب ان هناك من ينفق تكلفة العلاج لدى الطبيب النفسي، على زيارات العرافين والدجالين الذين لا يفكون عقدة المريض ومشكلته بل بالعكس يزيدونها تأزما وتعقيدا» وللاسف ما زالت النظرة الى من يلجأ الى الاخصائي النفسي على انه مجنون على حد قول الهادي حمدي الذي اعتبر ان هناك اسرارا ومشاكل لا يمكن ان يبوح بها الشخص الا للمختص في طب النفسي وايده الرأي محمد بن بلقاسم بقوله «يتسنى للمريض في عيادة المختص ان يصعد مكبوتاته ويعبر دون قيود فيجلس متكلما دون رقيب او قاض يحاسبه على كلمة فارقت شفتيه فيرتاح، وهو ما لا يمكنه تحقيقه ونيله عند مكاشفة الآخرين حتى من هم اقرب الناس اليه» واضاف «للعائلة دور في احتواء ما يمر به أحد افرادها من مشاكل نفسية عبر توفير المناخ الملائم للمريض مكتئبا كان او مصدوما او متأزما الى حد كره الحياة والتفكير في الانتحار..» سمير (أستاذ تعليم ثانوي) رفض الخوض في الموضوع مؤكدا ان كل من يذهب الى طبيب نفسي قطعا يعاني من قصور في مداركه العقلية، اما السيدة سماح (42 سنة) والآنسة ابتسام (27 سنة) فقد اجمعتا على ضرورة زيارة عراف اذا ماشعر المرء بخلل نفسي، واكدتا على ان مردّ ذلك غالبا ما يكون جرّاء الحسد والعين وهو ما اكده عدد كبير ممن استجوبناهم من مختلف الاعمار والاجناس. عوامل كثيرة تجعل المريض يحجم عن مرضه يفسر اخصائي نفسي الظاهرة بالمفهوم المتراكم لدى الناس التي تربط الطب النفسي بالشعوذة «الناس لديها انطباعات خاطئة عن الطب النفسي، حيث يستخدمون تعبيرا غريبا هو «الجنون» الذي يعتبر شتيمة اكثر منه تشخيصا، ولا يوجد في معجم الطب النفسي ما يسمى بالجنون، فالامراض النفسية تتدرج من حالات بسيطة جدا كالقلق، الى حالات صعبة كالفصام العقلي، وكلنا تمر علينا ازمات اذا لم نتلق علاجا تخصصيا يتعلق بالازمة ممكن ان تتطور وتنتقل من حالة حادة الى حالة مزمنة». ويشير الدكتور الى عامل آخر في احجام الناس عن العلاج النفسي وهو الاعتقاد الخاطىء بان العقاقير تؤدي الى الادمان، وهذا غير صحيح «الادوية التي تستخدم في العلاج هي عقاقير نوعية تعمل على علاج المشكلة وليس التخفيف منها، ولا تؤدي الى الادمان، وامكانية الانقطاع عن تناول الادوية سهلة ضمن الاشراف الطبي. الدراما.. والصورة المشوهة للطبيب النفسي حمل الدكتور الدراما التلفزيونية مسؤولية الصورة المشوهة لدى الناس عن الطبيب النفسي «عمدت على اظهاره بصورة مخزية هذا الامر اثر كثيرا وصور الطبيب على انه طيب «الجنون» وبالتالي فقد الناس الدافعية في موضوع العلاج حتى لو كان بحاجة له» وتابع الدكتور: «الناس ترى ان المرض النفسي ضعف في الارادة والدين والشخصية وهذه الفكرة تمنع العديد من زيارة الطبيب النفسي للعلاج خشية الاتهام بضعف دينهم او شخصيتهم وهذا الامر خاطىء لأن ما مر به المريض كان يجب ان يمر به. بعض الناس اجسامهم مستعدة لتطوير حالة من الاكتتئاب، فلا يراجعون الطبيب مخافة ان يتهموا بدينهم واخلاقهم، مما قد يزيد الطين بلة، ذلك ان الشخص المصاب بالاكتئاب ستتفاقم المشكلة لديه اذا لم يعالج». علاج عالي التكلفة وبرر الدكتور التكلفة العالية نسبيا لعلاج الطب النفسي مقارنة بعلاج امراض اخرى بساعات العلاج الطويلة التي يقضيها الطبيب المعالج مع المريض، وتصل الحصة الواحدة على حد قوله، الى 45 دقيقة. ثقافة الشعوذة افادنا الاستاذ بلعيد اولاد عبد الله اخصائي في علم الاجتماع ان البعض يعتبر زيارة الطبيب النفسي ترفا «رغم ان الحاجة للطبيب النفسي مثل اي اختصاص آخر، بل ان الجهاز العصبي والجهاز النفسي حساس اكثر من باقي الاعضاء الا ان البعض يتحرج من زيارة الطبيب النفسي خوفا من نظرة المجتمع والقيل والقال عن هذا المريض، هذه النظرة كرستها الموروثات الاجتماعية والعادات والتقاليد التي سار عليها المجتمع.» ويعلل الاستاذ لجوء البعض الى الشعوذة لعلاج الامراض النفسية ب«انهم يعتبرون ان وقعها اخف من الطبيب. كما يساهم في ذلك بطريقة غير مباشرة ضعف نشاط نشر وترجمة الكتب المتعلقة بالطب النفسي لتحتل كتب «الابراج» و«التعرف عن النفس» و«مشاكل الازواج» وغيرها من الكتب التجارية غير العلمية رفوف المكتبات» وضعيات مختلفة للمرض اكد الدكتور محمد فاضل مراد رئيس مصلحة بمستشفى الرازي بمنوبة واستاذ جامعي بكلية الطب بتونس ان الحالات المرضية تختلف من شخص الى آخر ومن وضعية لاخرى بحيث نجد نوعين من المرض. «فالنوع الاول هو المريض المتألم والذي يعاني من قلة النوم ويفقد لذة الاحساس بالاشياء وحتى بمن حوله، وهذه النوعية من المرض تكون على علم مسبق بوضعيتها وتؤمن بضرورة زيارة طبيب مختص لتجاوز هذه الحالة والشفاء منها مما يسهل مهمة اهل الاختصاص ويوفر عليهم عناء تطور الحالة لما هو أسوأ فهؤلاء المرضى يجدون صعوبة في التأقلم مع المحيط الذي يعيشون فيه ومع الافراد الذين يعيشون معهم مما قد يمثل ازعاجا لهم ولغيرهم وفي هذه الحالة يكون تناول الدواء الطريقة الانجع لتجاوز الحالة. اما النوعية الثانية فهي تضم الاشخاص الذين لا يعترفون بمرضهم وبحاجتهم للعلاج الفوري لذلك يقع احضارهم من طرف عائلاتهم بالقوة عند قيامهم بحركات غير طبيعية ومثيرة للشك. لكن وللاسف قد يتعلل بعض المرضى بانهم يعانون من السحر وانهم بحاجة للعلاج الرعواني وقد يسايرهم اهلهم في هذا الظن مما يترتب عنه زيارات عديدة لبعض المشعوذين لكن تتفطن العائلة وفي نهاية المطاف لضرورة الاتصال بطبيب نفسي لعلاج ابنهم. وقد يكون العلاج غير ممكن اذا ما كانت الحالة حرجة». ويضيف الدكتور: «وهناك حالة ثالثة يتم التفطن على اثرها الى الوضعية النفسية الحرجة للشخص وهي عند ارتكابه لجريمة يكون سببها اصابته بهذا المرض او عند اثارة المشاكل والازعاج في الشارع مما يترتب عنه احضار المريض بالقوة». تطور الطرق العلاجية وبسؤاله عن مدى عزوف التونسي عن زيارة الطبيب النفسي حتى ولو كان يعاني من مرض ما او خجله من الاقرار بمتابعته لحصص علاجية نفسية، اكد الدكتور محمد فاضل مراد ان المسألة مرتبطة بعقلية وبمدى معرفة او عدم معرفة الاشخاص لاهمية التعامل مع طبيب مختص وقت الحاجة لذلك فحسب رايه يبقى المرض النفسي مرفوضا منذ الازل ذلك ان المرضى يعتبرون مصدر تهديد احيانا كثيرة بالنسبة لهؤلاء الاشخاص، وحتى المرضى في حد ذاتهم يحاولون اخفاء امر زيارتهم لطبيب نفسي واعتباره سرا خطيرا. لكن يقر الدكتور بانه لاحظ تطورا كبيرا في العقلية خاصة في تونس وقبول الاشخاص لوضعياتهم المرضية مع تطور الادوية مقارنة لما كانت عليه سابقا، بالاضافة الى تطور تقنيات العلاج. كما ان عامل الضغط الذي نعيشه يوميا ووعي التونسي به جعله يحس بانه معرض اكثر للمرض وانه بحاجة لزيارة طبيب نفسي للشفاء. الصباح