٭ يكتبها اليوم من بيروت الأستاذ ناصر قنديل لا يستطيع أي باحث أو متابع إنكار الاعتراف بأن العالم شهد في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين نشوب حرب عالمية ثالثة، استثمرت على نتائج نهاية الحرب الباردة لتكريس الهيمنة الأمريكية على موارد النفط والطاقة تحت شعار الحرب على الإرهاب، وأن بلادنا العربية والإسلامية كانت مسرح وهدف هذه الحرب، وأن إسرائيل كانت على طرف التلقي الإيجابي لهذه الحرب لإنتاج معادلة هيمنة موازية على الساحة الاقليمية، تعيد فرضها كحليف إستراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية مؤهل للعب دور الوكيل القادر والموثوق. كما لا يستطيع أحد إنكار حقيقة موازية قوامها، أن هذه الحرب التي حشدت لها كل عناصر القوة المستمدة من القرن العشرين في مجالات المال والدعاية والسلاح والتكنولوجيا لم تفلح في تحقيق أهدافها وتعثرت عند بوابات الشرق، بسبب ظهور عناصر غير محسوبة في معادلات الحروب وقوانينها وعلومها، وأبرزها أن الحرب خيضت وفقا لقوانين الحرب العالمية الثانية، ولم تضع في حسابها كون منتجات النصف الثاني من القرن العشرين،باتت ملكا إنسانيا قابلا للفعل في سياقات الحروب التي يخوضها أصحاب براءة الاختراع انفسهم . أهم هذه العناصر، الإعلام والمنظمات الحقوقية وبالتالي الرأي العام كحاصل لتلاقي فعلهما وتفاعلهما معا، من جهة، والتأثير المتفاوت لثقافة العولمة والفردية والاستهلاك في عالمي الغرب والشرق على تكوين الانسان المقاتل وروح الثبات والتضحية لديه، من جهة ثانية، والدينامية السياسية لمفهوم الممارسة الديمقراطية ودورها في إنتاج ارتباك ايديولوجي لدى قوى الحرب العالمية، من جهة ثالثة، وسرعة تحول الهويات الكامنة التي نجح الغرب في استخدامها لخوض الحرب الباردة والفوز بتفكيك الاتحاد السوفياتي بنتيجتها، إلى هويات جامعة بدلا من دورها التفكيكي، كالدين والوطنية ودورهما في تفكيك الاتحاد السوفياتي مقابل دورهما الجامع في الحالتين العربية والإسلامية، من جهة أخيرة . يعترف الأمريكيون والإسرائيليون بفعل هذه العناصر ولو بطرق ملتوية فهم يقرون في كل وثائق تحليل نتائج الحروب ولو مداورة بهذه الحقيقة، حيث فشلت القوة المفرطة في حسم حرب سريعة فرض منطقها تطور وسائل الإعلام ووجود منظمات حقوقية وإنسانية ناشطة وتفاعل ونهوض رأي عام مواكب لهما، كما يقول وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد في تفسير الهبة العالمية بوجه ارتكابات سجن أبوغريب، «إن الوقت الذي كان يفصل بين وقوع الحدث وتفاعله مع الرأي العام في الحرب العالمية الثانية كان أكثر من ستة أشهر، وهو وقت بث الشريط السينمائي الدوري عن وقائع الحرب أو موعد تبديل الوحدات العسكرية المقاتلة، بينما قد لا يستغرق اليوم ست ثوان هي الوقت اللازم للبث الحي من أرض المعركة، مما يجعل قدرة القادة على إستيعاب نتائجه على الرأي العام شبه معدومة ومما جعل الزمن المتاح لحسم الحرب محدودا جدا . ويقول موشي أرينز وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق «انه بالرغم من وجود الكثير من العناصر المؤثرة في فشل حربي جوان 2006 ديسمبر 2008 على كل من حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد في غزة، فإن العامل الحاسم هو التفاوت الهائل بين البيئتين الحاضنتين للجيش الإسرائيلي من جهة ومناوئيه من جهة أخرى على بذل الدماء والثبات والتضحية وتحمل النتائج المؤلمة للحرب»، وهو بالتالي اعتراف صارخ بوجود بيئتين متعاكستين في التفاعل مع ثقافة العولمة القائمة على الفردية والاستهلاك وتفكيك روح الجماعة، حيث ولدت من جهة بيئة معولمة خارج روح التضحية والتحمل اجتاحت مجتمعات الغرب وجيوشها،وأنتجت بمعادلة فيزيائية نقيضها على الضفة الأخرى جزرا عصية على الذوبان والانخراط ببيئة العولمة وثقافتها، وهذا ما سماه الكاتب الأبرز في نيويورك تايمز توماس فريدمان حرارة الدماء في الجزر المغلقة بوجه العولمة في حديثه عن سيارة «اللكزس» وشجرة الزيتون . تعترف من جهتها المستشارة السابقة للأمن القومي والوزيرة السابقة للخارجية في واشنطن، غونداليسا رايس، أنها تجاهلت الحقيقة التي أدركتها في مواكبتها لنهاية الاتحاد السوفياتي حول دور الهويات الكامنة كالدين والوطنية في تشكيل روافع التغيير في زمن الثورة العالمية للإعلام والاتصالات، رغم تنبهها لها في مطلع القرن الواحد والعشرين إثر الانتفاضة الفلسطينية التي عرفت بإسم انتفاضة الأقصى، عندما علقت على دخول أرييل شارون إلى المسجد الأقصى وقالت انه يهدد بإيقاظ هوية عربية إسلامية نائمة، بينما المطلوب هو تعزيز الوطنيات الضيقة، فلا يتذكر المصري أو السوري أو السعودي إلا هويته المصرية أو السورية أو السعودية، وغاب عن رايس عرابة الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به من بوابة حرب جوان 2006 على لبنان، أن فعل هذه الهويات الكامنة هو جمعي في الشرق بينما كان تفكيكيا في الاتحاد السوفياتي. في دراسة لمعد الشرق الأدنى للدراسات الاستراتيجية لواشنطن أن النكسة الأساسية التي أصابت المشروع الإمبراطوري الأمريكي جاءت من النتائج المعاكسة للتوقعات لدى تطبيق الشعار المركزي الذي أتخذ شعارا للحملة العسكرية، وكان جذابا في حالتي العراق وأفغانستان وهو الديمقراطية، التي حملت كلا من أحمدي نجاد وحزب الله وحركة حماس إلى مواقع القرار الحاسم في مناطق المواجهة، حتى قالت رايس، لقد تحولت الديمقراطية إلى سلم يتسلقه اعداؤنا، بينما ترتب عن الديمقراطية العراقية إخلالا في التوازن مكن إيران من تعزيز نفوذها،وبات إنكار الاعتراف بالنتائج ضرورة سياسية لكنه كارثة إيديولوجية، رتبت خيبة أمل لدى كل المراهنين على صدقية المشروع الأمريكي بالذهاب إلى التغيير والإصلاح وفك العلاقات التقليدية بأنظمة كانت واشنطن قد تلت فعل الندامة على تعاملها معها في الماضي، وعادت بعد الفشل الحليف الذي لا غنى عنه خشية ما قد تحمله الديمقراطية من مفاجآت . تنكب واشنطن وتل أبيب على دراسة مكامن الضعف وتسعيان الى بناء عناصر قوة بديلة، ويبدو الحراك على محاور جديدة أبرزها استثمار القدرة التكنولوجية المتفوقة في قطاع الاتصالات والمعلوماتية من جهة، وتفعيل منظومة القانون الدولي ومحاكمه من جهة أخرى، لتجميع وبناء وإنتاج وقائع وأدلة على الفساد والجريمة في واقع الخصوم والأصدقاء على السواء، فهي بنية عصرية متساوقة مع إيديولوجية الحداثة والتطور، ونقاط تفوق غير مكلفة معنويا وأخلاقيا، ومواقع مأمونة السيطرة، ومفاعيلها مع الأصدقاء المتورطين في الفساد والجريمة مزيدا من الخضوع طلبا للحماية، ومع الأعداء بناء مسرح للمواجهة غير تقليدي يمكن عبره الاختيار بين نموذجي يوغوسلافيا أو لوكربي، الانتحار أو الاستسلام، والساحتان الجاهزتان للاختبار ستكونان السودان ولبنان .