من خلال المنتدى الاقتصادي العربي الياباني الذي احتضنته تونس أوائل هذا الشهر علمنا من أفواه كبار المسؤولين العرب الذين حضروه أن اليابان هو ثالث شريك اقتصاديّ للبلدان العربية، بعد أمريكا والاتّحاد الأوروبي. ولن أبحث هنا دواعي احتلال اليابان للمرتبة الثالثة، ولا نتائجها، فذلك متروك لأهل الاختصاص، لكن لي أمل، ورجاء، وأمنية أن يأخذ اليابان المقام الأول في علاقات العرب الاقتصادية، وأن يسعوا في تطوير مبادلاتهم معه، عسى أن تنتقل اليهم الأنفلونزا التكنولوجية التي حققها هذا المارد المنسيّ، والمقدّر في العالم العربي بأقلّ مما يستحقّ. لقد زرت اليابان منذ أمد غير بعيد، وشاهدت كيف أن هذا البلد رغم انكساره في الحرب العالمية، واحتلاله المستتر من طرف أمريكا، وافتقاره الى الموارد الطبيعية استطاع أن يكون محضنة خصبة، ورحما ولودا لعدد من الشركات الصناعية العملاقة ذات الصّيت العالمي، مثل تويوتا، ونيسان، وهوندا، وميتسوبيشي، وكانون، وسوني، وبناسونيك، وآكاي، وشارب، وغيرها ممّا حاز بواسطتها المرتبة الأولى في صناعة السيارات، والمرتبة الثانية في بناء السفن الشاحنة بعد الولاياتالمتحدة، الى درجة أفزعتها ودفعتها الى اتّخاذ اجراءات حمائيّة لصناعتها. وقد سألنا رجل اقتصاد شاركنا الرحلة عن الركائز التي ساعدت في انطلاق الطفرة اليابانية : هل هي ذكاء انسانيّ خارق للعادة، أم تمويلات ضخمة لا يوجد مثلها في البلاد، أم ثراء تربة وكثرة معادن وسخاء طبيعة؟ فرفع يده ليمسح بها أوهامنا كلها، وقال: لا هذا ولا ذاك، وانما التوجّه التحديثي الذي سلكه اليابان وطبّقه في مختلف المستويات، وعلى جميع الأصعدة هو الذي أحدث الطّفرة التي تتعجّبون منها، والتي يمكن تلخيص دعائمها كالآتي: 1 رأس مال بشري هامّ كمّا وكيفا . 2 تعاون قويّ بين الحكومة والمؤسسات الخاصّة. 3 انتاج مركّز على التصدير. 4 ثقافة عمل ممتازة، قوامها الانضباط والمسؤولية واحترام الوقت. 5 امتلاك التكنولوجيا المتطوّرة. 6 ضعف الاهدار الماليّ في التسلّح. قال أحدنا عودا الى ما سمع عن الفزع الأمريكي من المنافسة اليابانية : لهم الحقّ بأن يفزعوا وهم يرون مهزوم الحرب بالأمس قد صار هو الغالب اليوم، والماسك بناصية السّوق . قال رجل الاقتصاد : كان فزع الأمريكان حقيقيا وفي محلّه، اذ استطاع اليابان في ظرف عشرين سنة فقط مابين 1970 و1990 الاستيلاء على كامل السوق الدّاخلية الأمريكية في ميدان الالكترونيات، وعلى 65 بالمئة من سوق التكنولوجيا العالمية. وقال انه قرأ ذلك في تصريحات مدير شركة «هيوليت باكار» الأمريكية، وتصوّره يطلق صيحة انذار الى بلده. كيف حدث استيلاء اليابانييّن على السوق الأمريكية.. هل كان الأمر متاحا بسهولة؟ يقول رفيقنا: ان براعة اليابانيين تتجلّى في خدعة لطيفة تتمثّل في شرائهم لبراءات الاختراع الأمريكية، ثم تطويرها واعطائها قيمة مضافة، تتيح لهم اكتساح الأسواق العالمية. لكن هذا لم يسمح رغم ذلك لليابان باكتساب الزّعامة التكنولوجية، اذ ظلّ رغم كل شيء آخذا لا مبدعا. ولذا بدأ يموّل بغزارة البحوث الأساسية ليصير هو نفسه مصدّرا للتكنولوجيا المتطوّرة والمجدّدة. فهل حقّق ما كان يريد؟ يشرح صاحبنا بالقول: كان اليابان في أوائل الثمانينات يكرّس لميدان البحث العلمي جهودا مماثلة لجهود أمريكا (بمعدّل 7 باحثين على كل ألف عامل)، لكن الأولويّة أعطيت لتطوير الانتاج والتطبيقات المعملية، وتركّز الانفاق السخيّ على ميادين اختيرت بعناية تبعا لمقياس مزدوج هو : الطلب العالمي المتزايد أولا، وقابلية التطوير التكنولوجي ثانيا. فنتج عن ذلك أن اليابان رغم حيازتها المرتبة الثانية عالميّا في عدد براءات الاختراع (20 بالمئة) بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن ميزانها التجاري التكنولوجي ما زال ناقصا. لذا تركّز الدولة حاليا على التجديد التكنولوجي، وتعتبره السلاح القادم لخوض كل منافسة دولية، بما في ذلك منافسة الدول الآسيوية المصنّعة حديثا. علّق أحدنا قائلا: جارات اليابان الآسيوية بدأت تتحدّاها فعلا، وأكبرها الصّين التي تتدفّق بسلعها على الأسواق. فختم رفيقنا الاقتصاديّ حواره بالقول : لا خشية على اليابان اليوم فهو يتجاوز الولاياتالمتحدة في الانفاق على البحوث التطويرية بترفيع عدد الباحثين (صاروا 9 باحثين على كل ألف عامل)، وبتوظيف ما قدره 2.97 بالمئة من المنتوج الداخلي الخام للاكثار من تلك البحوث .