... وجوه التحفت بالسواد... داخل بيت جميل سكنه الحزن لأيام... بعد أن فقد عموده الفقري وعائله الوحيد، قبر مفتوح لأيام خمسة بمقبرة الجلاّز مازال ينتظر ذاك الجثمان القادم إليه ليكرمه بين ذرات ترابه، وأم عجوز ثكلى تنتخب في صمت... أرملة شابة وطفلان مشوشا التفكير... انتظرا ذات مساء عودة الأب رفيق بخبزة المرطبات احتفالا بشهادة الامتياز... فغابت الفرحة بخبر وفاته في ظروف أقل ما يقال عنها عنها إنها غامضة لم تحضر قطع المرطبات كما لم يحضر معها الأب الشاب الذي قادته ظروف عمله كمتفقد تراتيب لاجراء معاينة موطنية لمخالفة بناء لم يغادرها إلا إلى الرفيق الأعلى. قضية مصرع متفقد التراتيب المرحوم «رفيق الزغلامي» لم تكن قضية عادية فقد تداخلت وتشابكت فيها الأحداث كذلك هوية المورّطين فيها... والتحقيقات جارية لكشف المستور مع اصرار من العائلة على معرفة الحقيقة قبل دفن الجثمان. إكرام الميت... لكن! «فاجعتنا كبيرة... نؤمن بالله واليوم الموعود وبكون إكرام الميت دفنه، لكن!! من يطفئ نيران الحرقة التي بداخلنا...» بصوت مبحوح وعيون جفّت من شدّة البكاء ووجه شاحب افترشت «ربح» شقيقة القتيل الأرض... وهي تتحدث إلينا عن الفاجعة التي حلت بالعائلة وزهقت روح ربّ الأسرة وأحد أهم ركائزها الأساسية : «إنه كل شيء داخل هذه العائلة.. هو الأب والشقيق والصديق لا يمكنني وصف خصاله ربما لكوني أخته لكن القاصي والداني يعلم ويعرف من هو «رفيق الزغلامي» الذي مات وهو يباشر عمله وواجبه لكن حرقتنا كبيرة... لا أحد يمكنه أن يدرك حجم مأساتنا وعماد هذه الأسرة مازال لم يوار التراب بعد، اليوم أمس الثلاثاء خمسة أيام كاملة وقبر شقيقي مفتوح، لسنا ضد دفنه أو إخراج جثته من المستشفى، بل فقط نحن نستجدي الحقيقة وليس غيرها، حتى يتسنى لنا حينها مواراته التراب في مثواه الأخير ونفوسنا مرتاحة، يومها فقط يمكننا أن نقرأ على روحه الفاتحة وأن نقول له «عودي أيتها النفس المطمئنة، إلى ربك راضية مرضية». معاينة وبعد... كيف حدثت الجريمة؟ وكيف هلك متفقد التراتيب؟ وماذا قال شهود العيان الذين تابعوا الواقعة؟ ولماذا لم يقع اسعاف الضحية وكيف تركوه حتى مات؟ كلها أسئلة لاتزال الاجابة عنها قيد التحقيق والبحث حيث شملت الأبحاث حوالي 4 موقوفين وأشخاص آخرين قال شهود العيان إنهم مورطون في القضية. مهمة عمل... بحسب ما جاء على لسان العائلة وشقيق الضحية «مساعد قضاء» وهو أحد شهود العيان ممن تابعوا جزءا من وقائع الجريمة أن الضحية «رفيق الزغلامي» البالغ من العمر فقط 45 عاما وهو متزوج منذ حوالي 9 سنوات يشغل خطة متفقد تراتيب بإحدى البلديات بالضاحية الجنوبية للعاصمة ويقطن صحبة أسرته الصغيرة وطفليه محمد عزيز 8 سنوات ويحيى 7 سنوات بالعاصمة بجهة باب العسل، الضحية يشهد له الجميع من الأصدقاء والأجوار بحسن أخلاقه وطباعه ومساعدته لكل من حوله، دون حساب. يوم الحادثة، المشؤوم الجمعة الفارط تم تكليف رفيق بمهمة جديدة هي معاينة شكاية مواطن ضد جاره الذي فتح شباكا صغيرا لمنزله في الوقت الذي تسعى فيه العائلة الشاكية إلى الحصول على رخصة بناء طابق ثالث قوبل من لجنة البلدية بالرفض. اعتداء زمن الحادثة توجه رفيق الزغلامي متفقد التراتيب صحبة عون تراتيب وعون أمن لاجراء المعاينة الموطنية كما تقتضيه الاجراءات المعمول بها في هذا المجال، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان حيث دون المتفقد محضر المعاينة التي تشير إلى كون الشباك قانونيا. وبحسب الأبحاث الأولية فإن العائلة الشاكية أغلقت باب المنزل على المتفقد فيما بقي رفيقاه بالخارج وتكاثفت جهود أربعة أشخاص أحدهم ملاكم في الاعتداء عليه بالعنف الشديد...». طلب النجدة لكن!! شقيق الضحية السيد مراد وهو رجل قانون كان آخر من استنجد به القتيل حين اتصل به هاتفيا ليعلمه بالوقائع فقد اتصل متفقد التراتيب بأرقام النجدة ومن ثم اتصل بمقر عمله ليعلمهم بكون المنزل الذي ذهب لمعاينته قد عمد متساكنوه إلى حجزه بداخله والشروع في الاعتداء عليه، ومن ثم اتصل بشقيقه طالبا نجدته...». حضر الجميع لكن! يقول شاهد العيان الرئيسي في القضية : «لقد حضر الجميع أمام المنزل المحتجز فيه شقيقي، لكن لا أحد تدخل رغم سماعهم لصوت طلبه النجدة.. كنت ملتاعة ولم أتمكن بدوري من الدخول بعد منعي كان إثرها شقيقي قد تعرض للاعتداء من قبل الأشخاص بالداخل». منعوني من إسعافه يواصل شاهد العيان كلامه وبحرقة كبيرة : «مات شقيقي ولم أودعه لكن المصيبة الأكبر من الموت. اني لم أتمكن من نجدته، منعوني حتى من نقله للمستشفى لاسعافه فقد تبول دما حينها عرفت حقيقة الاعتداء الذي تعرض له والذي أصابه في مقتل... كنت أراه وقد مالت شفتاه إلى اللون الأزرق... كان يحتضر ورغم ذلك تعرض شقيقي لاعتداء إضافي بعد اخراجه من البيت الذي احتجز فيه ومنعوني بالقوة من إسعافه بدعوى أنه مجرد تمثيل... كان حينها شقيقي يحتضر ومات وهم يقولون لي إنه تمثيل. إيماننا كبير تقطعت عبرات صوت الشقيق وهو يسترجع تفاصيل المصيبة التي حلت بأسرته وبالعائلة ليختم كلماته الممزوجة بدموع حارقة : «لسنا ضد حكمة الله سبحانه، فإيماننا به كبير جدا لكن ما حدث لا يمكن غض الطرف عنه. لقد كان يؤدي عمله وواجبه ليس إلا وكان المقابل أن احتجزوه وضربوه من ثم واصل آخرون الاعتداء عليه وكأنّه ارتكب جريمة والحال أنه متضرر وموظف يؤدي واجبه ليس إلا. حق زوجي ليس إلاّ ... أرملة الضحية سامية.. سكنها الحزن الصامت بداخلها وهي تسترجع تلك اللحظات الأخيرة من حياة زوجها حيث نال طفلها البكر شهادة الامتياز ووعده والده بخبزة مرطبات... «لقد وعدنا بالحضور ومعه مبروك الامتياز لطفلنا... لكن سبقه خبر مقتله... لم يكن مجرد خبر لو أن المنية فاجأته لكن زوجي قتلوه... بدم بارد ومنعوا شقيقه من إسعافه وحرموني السعادة طيلة حياتي المستقبلية ويتموا أطفالي من بعده : «والأمرّ أن من قتلوه كانوا يكنون له الحقد منذ مدة وليس يوم الواقعة فحسب». هدوء ولكن! بيت القتيل لم يسكنه الحزن فقط بل وخيّم عليه السكون الرهيب بيت يتقبل التعازي دون موكب دفن وعائلة منكوبة دون أن تواري جثمان إبنها التراب وقبر مفتوح إلى تاريخ مجهول. عائلة القتيل ثقتها كبيرة في العدالة لتنصفهم بإظهار حقّ ابنهم وكشف كل المورطين في قتله وإهماله إلى حين لفظ أنفاسه الأخيرة ختموها بالقول : «حين نمتلك الحقيقة... يومها فقط يمكننا إكرام إبننا ودفنه وتوديعه الوداع الأخير... أما الآن فنحن صابرون إلى كلمة الحق». وعلمت الشروق أن النيابة العمومية بابتدائية بن عروس فتحت تحقيقا قضائيا في الحادثة لكشف ملابساتها وكذلك الأطراف المورطة فيها، بعد أن تم إيقاف 4 أشخاص على ذمة الأبحاث.