الاهداء: الى الذين أحبّهم وأحنّ إليهم، «حسبي أنك ربي...وأن ملأت بالحب قلبي...فأنر يا رب دربي ودروب العاشقين...وأنر درب كل من كان له في القلب حب حي أو حنين...». أريد أن أكتب عن هذه المجموعة الشعرية للأستاذة ناجي الزعيري بطريقتي الخاصة وانّي لأرجو ألا يخاصمني زملائي في الجامعة أو يغضبوا عليّ، لأنني لن أكتب على الطريقة الأكاديمية المعهودة في تأليف المقالات النقدية، فلن ألتزم بمنهج معين ولن أتقيد بخطة مسبقة. كل ما سأفعله هو أنني سأتناول هذه النصوص الشعرية على طريقة المتصوفة...نعم على طريقة المتصوفة، فلا تعجب...سأعتمد الذوق ولاشيء غير الذوق. وان شئت أيها القارئ فافهم الذوق على النحو الذي تريد، ان كان الذوق بالمعنى الذي أريد شيئا يفهم أو يفسر أصلا...لأنني لن أبوح لك بسر الذوق، بل سأترك لك الشوق، الشوق الى اكتشافه بنفسك ولنفسك. أقول هذا الكلام لأن المجموعة التي بين يدي الآن قد تستعصي على بعض الأفهام التي لا تنتظر من الشعر إلا البوح والكشف، فلا تنظر اليه إلا بعين واحدة، تشبه عين الصياد الذي يغمض احدى عينيه حين يريد أن يرمي الطريدة فيصيبها بطلقة واحدة فيرديها قتيلة، كذلك تجد عددا لا يستهان به من القراء يغتالون النصوص الشعرية بهذه الطريقة، فهم يريدون أن يكون قلب الشاعر كتابا مفتوحا يقرؤون صفحاته على طريقة المرضى في تصفح مجلات الموضة في العيادات الطبية حين يداهمهم سأم الانتظار، انهم لا يريدون أن يقرؤوا الشعر بقلوبهم بقدر ما يريدون أن يقرؤوه بعيون عقولهم وأن يبحثوا فيه عن صورة الشاعر أو ظله أو اسم حبيبته أو نوع ربطة العنق التي يلبسها أو رائحة العطر الذي يتطيب به...أما رائحة الروح فهي آخر شيء يمكن أن يخطر ببالهم ان كان للإمكان مكان، فإن كنت أيها القارئ من هذا النوع من القراء فإني أنصحك أن تبحث عن ضالتك في غير هذه المجموعة، لأنك لن تجد فيها ما يغنيك أو يجديك نفعا، وأما اذا كنت ممن يريدون أن يقرؤوا الشعر بأرواحهم على طريقة أرباب القلوب فتعال معي نرتشف من معين هذا الشعر ما يروي الظمأ ويبلّ الصدأ. شعراء يقال ان القيروان لا تنجب إلا شاعرا أو مجنونا، وإذا أردت الحق فان القيروان مدينة ولود، أنجبت غير الشعراء والمجانين ( وان شئت المجاذيب) الكثير الكثير من العلماء والفلاسفة والفقهاء والأطباء وغيرهم... وحتى لا نبتعد عن الشعر وهو موضوع حديثنا في هذا المقال يكفي أن نشير على سبيل الذكر لا الحصر الى بعض الذين لمعت أسماؤهم في سماء الشعر بدءا من ابن رشيق وابن شرف والحصري وانتهاء الى جعفر ماجد والغزي والوهايبي، ولن يكون ناجي الزعيري آخرهم بالتأكيد...لن يكون آخر الشعراء ولا آخر المجانين أو المجاذيب، أيما اللفظين اخترت فلا اثم عليك، ذلك أنك واجد في مجموعته الشعر والجنون معا، وإن شئت الحب والجمال معا، وان شئت عشق الله وحب المرأة معا،وان شئت الفن في أرق صوره والتصوف في أرقى مدارجه معا، وان شئت وجدت كل ذلك جميعا على صعيد واحد وفي مرتبة واحدة تقريبا. ولنبدأ بالعنوان:(أنا خاتم العاشقين) ألا ترى معي أنه عنوان مخاتل? (وليسمح لي الأستاذ لطفي اليوسفي بالسطو على هذه الكلمة جهارا نهارا في هذا السياق من غير أن آخذ إذنا مسبقا منه) أجل انها المخاتلة : فأنت حين تقرأ (أنا خاتم) تنتظر أن تأتي بعدها كلمة(الأنبياء)أو ( المرسلين) لأن كلمة (خاتم) في ثقافتنا الدينية ترتبط في أذهاننا بنبينا محمد عليه السلام بطريقة تكاد تكون آلية، ولاسيما إذا سبقت بضمير المتكلم المفرد، أو جاءت رأسا لمركب اضافي، كما هو الحال بالضبط في عنوان هذه المجموعة. وبذلك يكون نصف العنوان الأول قد نجح في إيهامنا بأن المجموعة تمت الى الدين بسبب من الأسباب، ثم يأتي نصف العنوان الثاني وهو المضاف اليه فيقلب المعادلة أو يعدلها ان أردنا الدقة، فيأخذنا في مسار آخر غير المسار الأول، وهو مسار العشق ولكن من الذي قال إن العشق كلمة تختص بالمعجم الغزلي دون غيره? واذا أردنا أن نكون واضحين أكثر، من الذي يستطيع أن يزعم أن كلمة العشق هي أقرب الى المعجم الغزلي منه الى المعجم الديني، أو المعجم الصوفي تحديدا? ألا توافقتي الآن أيها القارئ على أن العنوان مخاتل بالمعنى«اليوسفي» للكلمة? أما اذا انتقلت الى شكل الكتابة، فانك ستجده شكلا مخاتلا أيضا، لأنك لا تدري وأنت تلتهم بعينيك نصوص هذه المجموعة ان كنت تقرأ قصائد أو رسائل، وتتناول شعرا منثورا أو نثرا شعريا... وقد أشار الشاعر محمد الغزي الى هذه المسألة بوضوح في تقديمه للمجموعة، ولكن هذا اللون من الكتابة يذكرني شخصيا بأسلوب مصطفى صادق الرافعي (وقد اشتغلت عليه طويلا) في مؤلفاته النثرية الإبداعية التي خصصها للتأمل في فلسفة الجمال والحب، وهي «حديث القمر» و«رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» و«أوراق الورد» وقد احترت في تحديد جنسها الكتابي ، وقد انتهى بي الأمر بعد أخذ ورد وغير قليل من التردد الحذر الى اعتبارها شعرا« ولكن في غير الظروف الموزونة» على حد عبارة الرافعي نفسه. طرافة ثم إن بين هذه المجموعة ومجموعة كتب الرافعي وشيجة أخرى هي الأهم في نظرنا، وهي سبب طرافتها وفرادتها اضافة الى ما ذكرنا، وهي أنها جمعت بين معاني الجلال والجمال ، وعشق الخالق سبحانه وحب المرأة جمعا قل نظيره، في لغة رقراقة صافية، شفافة راقية ، لا هي بالسافرة المسفرة، ولا هي بالغامضة المبهمة، ولا هي بالمتبذلة المتهتكة، ولا هي بالمتزمتة المتمنعة، عوان بين ذلك... ثم انها تحدث في قلبك لذة حب عذري ترقى بنفسك رقيا ، ونشوة عشق الهي ترفع روحك مكانا عليا ، فلا تملك إلا أن تخرج عن وعيك وتقول على طريقة أقطاب العشق لحظة المكاشفة الروحية، أو على على طريقة أرباب الشعر لحظة المكاشفة الشعرية: هذا هو الجمال، هذا هو الشعر، هذا هو الفن وربّ الكعبة. وبعد أيها القارئ الكريم، فقد قلت لك شيئا وسكت عن أشياء وان أردت الحق فإني قد أومأت اليك بكل شيء ولم أبح لك بشيء، فإن شئت أن تعرف الأسرار كلها فما عليك الا أن تقرأ المجموعة كلها، واحرص الحرص كله على أن تقرأ بقلبك قبل عقلك، لأنك ان قرأت بعقلك قبل قلبك فلن تظفر بطائل، ولن تخرج منها الا بقصة رجل أحب امرأة وقفت به على مشارف الجنون، أما عالم الماوراء، ما وراء الحب والعشق والجلال والجمال فستجد بابه موصدا دونك... وستجد السراب ينتظرك في وسط الطريق.. فأحذر. وأما اذا كنت من الكسالى المترفين أو المترفين الكسالى فسأورد لك من المجموعة بعض المقاطع التي قد تغريك بالقراءة، فتذهب عنك الكسل والترف، وتعلمك أن الحب لا يوصل الى مشارف الجنون فحسب، بل قد يوصل الى مشارف الموت أيضا... فاحذر ثم احذر ثم احذر.. يقول الشاعر في خاتمة نص (رسائل العام الجديد): «أي رسائل ستكتبها في العام الجديد؟ أي شيء ما زال حيا فيك غير صمت موحش ومفردات للكلام تشبه هذيان المحموم، ما تراه اليوم ليس غير خيوط دخان لحريق لم تخمد نيرانه بعد، وتنتظرك أعوام أخرى لتستعيد ماء الوجه وحرارة القلب (ص22). ويقول في نص آخر، وقد تحول الحب عنده الى ما يشبه حالة الحلول الصوفي: «كيفما كان هروبك فهي حاضرة فيك، جزء لا ينفصل عن أصله، متعلق به لا يفارقه...» (ص24)، واستمع الى ناجي يحدثك عن وحدانية الحب حديث الأقطاب من المتصوفة فيقول: «إننا نحب مرة واحدة وحيدة ثم يذهب ذلك العالم الجميل بعيدا عنا فلا تطاله حواسنا، ويخفت صوت الحياة وتسكن الدنيا لذهابه، هو عالم يأتي مرة واحدة، فأشياء الوجود الجميلة والمدهشة لا تأتي الا مرة واحدة لا غير (...) وأنت أيتها المسافرة دوما لن تحبي الا مرة واحدة، ولن يدهشك الا رجل واحد، ولن تفعل فيك وتملكك عن نفسك الا مغامرة واحدة» (ص25-ص26) ويقول في نص (رأس الحكمة مخافة الانسان): «هل تعتقدين أنك شفيت مني تماما؟ كان وهما حديثك عن قصة حب أخرى وعن حبيب آخر وسرابا ما توهمين به نفسك الآن، وكان وهما حين أعلنت نسيانك وشفائي منك» (ص36). حيرة ولو أخذت أيها القارئ مكاني وذهبت في استعراض نماذج أخرى من هذه النصوص على هذه الطريقة لما استطعت، لأن الحيرة ستتملكك كما تملكتني، فلأكتف بهذا القدر، ولأدعك الى أن تشاركني حيرتي، ولن تندم، لأنك ستجد مع الحيرة نشوة ترفعك الى منزلة بين منزلتين، منزلة العشاق العذريين، ومنزلة العشاق الصوفيين، ويا لها من منزلة. وأخيرا يمكنني القول انني وجدت الشاعر الذي أبحث عنه، أعني الشاعر الذي يجمع في قلبه وشعره بين الحب الإلهي والحب الانساني، وبين جمال الخالق وجمال المخلوق، وبين الصورة الموحية والفكرة السامية، وبين جزالة اللغة وصفاء العبارة... أعني الشاعر الذي يمكن أن يكون امتدادا لمدرسة مصطفى صادق الرافعي التي قيل عنها انها ماتت ولكنها لم تمت ولن تموت ما دام في قلب الانسان حب وايمان... أعني مرة ثالثة أنني قد وجدت أخيرا الكتابة التي أستطيع من خلال قراءتها أن أثبت ايماني وعشقي. أستاذ الادب بقسم اللغة العربية بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس (9 أفريل)