فلتكن ما شاءت هذه النصوص، رسائل حبّ بين حبيبين، أو سيرة ذاتية لعاشق أضناه العشق والوجد والصابة، أو مذكّرات عشقيّة ترسبت في قاع الذاكرة، أو تداعيات ذات وصلت في حبّها درجة الحلول في ذات المحبوب. فمهما تنوّعت قراءاتنا لهذا النصّ الذي ينوس بين النثر والشعرية فإنّ المغزى واحد، إنّه إعلان من الكاتب لا مواربة فيه بأنّه »خاتم العاشقين« ومن أين اكتسب كلّ هذه الجرأة على اشهار أناه في وجه القارئ »أنا«؟ وأي التجارب العشقيّة عمدته وأعلته على العالمين ليكون الخاتم »خاتم العاشقين«؟ قد يسعفنا النص ببعض الإجابات، هذا إذا ما استطعنا فكّ طلاسمه وأسراره والحلول بين صوره ودلالاته في مغامرة نقديّة تسبر أغواره العميقة لن تكون في المتناول إذا لم يتبّع الناقد سبيل الكاتب ومذهبه في العشق وفي الكتابة على حدّ سواء. رغم ما توحي به القراءة الأولى لكتاب »أنا آخر العاشقين« من أنّه مجرّد رسائل حبّرها باث ما (قد يكون الكاتب) إلى متلق ما معلوم (قد تكون حبيبته) يبثّها فيها لواعج النفس وعذابات التعبّد في محراب العشق بين وصال وانقطاع، بين ماضٍ عتقه الحبّ والهوى وحاضر أضناه الهجر والشكّ وخيانة الحبيب، فإنّنا إذا ما أمعنا النظر وأرهفنا الحسّ، سنجد أنفسنا لا محالة مع حكاية عشق متكاملة الاركان ثلاثية الأطوال كباقي قصص الحبّ التي حفلت بها نصوص العشاق في الحضارة العربية. الطور الأوّل مثل البداية »في البدء كان العشق« والثاني فمثل وصول هذا العشق الى ذرى الوجد »تراتيل الوجد« أمّا الطور الثالث فقد عرجّت فيه روح العاشق إلى ما فوق ما يحتمله البشر من مراتب الحبّ وأحواله إلى »غربة الروح« لينتهي به هذا التدرّج في هوى المعشوق إلى ما إنته إليه كبار العشّاق وهو الفناء والموت في هوى المحبوب »ودماء العشاق دوما...«. حيث تمثّل هذه اللحظة الحريّة المطلقة التي يتحرّر فيها العاشق من كلّ مايربطه بهذا العالم، حتى وان كان المعشوق ذاته. إنّه المعراج الصوفي أو الحبّ الإلهي كما رأيناه في نصوص »الحلاّج« و»ابن عربي« و»ابن الفارض«. غير أنّ الكاتب قد سلك هذا الدرب من خلال ذات المحبوب متوسّلا بالكتابة طقسا وبصدق المشاعر إيمانا وإخلاص نيّة، يقول في أحد اعترافاته »أقف على تلك الحافة الحرجة بين الرومنسيّة الغافلة وتسابيح الوجد بهمّة خائرة طلبا لطمأنينة قلقة ويقين بارد...«. ولكن اللغة على جزالتها ورقة ألفاظها وإغراقها في الشاعريّة التي حولت النصوص / الرسائل أحيانا إلى قصائد غزل وتشبّب فإنّها ضلّت قاصرة عن حمل المعنى وهاهو الكاتب يعلنها »ألم أقل لك أنّ في القلب مساحات لا سلطان له عليها قد يضيق فيها اللفظ أحيانا ويتّسع المعنى«. غير أنّ هذه النصوص ورغم إمعانها في تشقيق المعاني ورقة الفؤاد فإنّها لم تخل من اشارات واقعيّة تكاد تنبئنا بأنّنا أمام قصّة واقعيّة، لن أتردّد في البوح بأنّ الكاتب »ناجي الزعيري« أحد طرفيها، فالمكان والزمان والألفاظ وحرارة الكلمات ودفق المشاعر وعمق التجربة، لا يدع مجال للشك في ذلك. »أنا خاتم العاشقين« مغامرة جديدة في الكتابة تشبه فن الترسل الموغل في تاريخ الأدب العربي كما ذهب إلى ذلك المشاعر محمد الغزي في تقديمه، وتحاكي لغة الزهاد والمتصوفة والمجانين العشاق. ولكنّها في ذات الوقت تُحيلنا إلى جنس من الكتابة جديد هو أدب السيرة الذاتية، أو المذكرات والاعترافات، أو أدب الخواطر والتداعيات. مهما كان الجنس الذي ينتمي إليه نصّ الزعيري فإنّه يبقى من الإضافات النوعيّة في ساحتها الأدبيّة التي تستحق الإهتمام.