يعيش الإنسان حياته بين الأهل والأصدقاء وذوي الأرحام وقد تكون هذه الحياة طويلة أو قصيرة، سعيدة أو شقيّة، فيها الأفراح والأتراح وفيها الصحة والمرض وفيها التشاؤم والتفاؤل وفيها تقلبات الدهر وفواجع الزمان ولكن الإنسان قد ينسى همومه ويزول حزنه ويتغلب على مصائبه إن قيّضَ الله له صديقا صدوقا مخلصا يشد أزرهُ ويتوجع معه ويواسيسه عندما يكشّر له الدهر عن أنيابه وقديما قال الشاعر: ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجّع ولكن عصرنا الماديّ الذي نعيشه اليوم يقلُّ فيه هذا النوع من الأصدقاء الأوفياء حيث تطغى الأنانية والمصالح الشخصية على غيرها من سلّم القِيم الإنسانية النبيلة وبرجوعنا إلى مصادر تاريخ أدبنا العربي نجد صورا مشرقة لصداقات كانت مضرب الأمثال ولأخرى كانت متنكرة لها وعلى المرءِ حسن اختيار أصدقائه وإخوانه الذين لا يستغني عنهم عند الشدائد وما أحسن قول الشاعر: وما المرءُ إلا بإخوانه كما يقبضُ الكفُّ بالمعصمِ ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعة ولا خير في الساعد الأجذمِ ويرى سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن إخوانَ الصفاء عماد وظهور تحمل أثقال إخوانهم وينصحنا بالإكثار من الأصدقاء والإقلال من الأعداء فيقول عليك بإخوان الصفاءِ فإنهم عماد إذا استنجدتهم وظهورُ وإنّ قليلا ألفُ خلّ وصاحب وإنّ عدوّا واحدا لكثيرُ ورويَ عن معاوية أنه قال: مللتُ جميع ملذات الدنيا ولم يبق منها عندي مما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم وصديق حميم وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الشاعر بقوله: وما بقيتْ من اللذات إلاّ محادثةُ الرجال ذوي العقول وقد كنّا نعدّهم قليلا فقد صاروا أقلَّ من القليل وقد وضعَ بعضُ الشعراء وصفا للصديق المثالي الذي ينبغي أن يكون فقال: إنّ الصديق الحقَّ من كان معك ومن يضرُّ نفسهُ لينفعكْ ومن إذا ريبُ الزمانِ صدعكْ شتّتَ فيك شملهُ ليجمعكْ أمّا الشاعر أبو تمّام فيرى أن الصديق الأمثل هو الذي يحلم عنك إذا أغضبته ويُصغي لحديثك بقلبه وعينه ولو كان عارفا به فيقول: منْ لي بإنسان إذا أغضبتُهُ وجهِلتُ كان الحِلمُ ردَّ جوابِه وإذا صبوتُ إلى المُدامِ شربتُ من أخلاقه وسكرتُ من آدابه وتراهُ يُصغي للحديث بطرفهِ وبقلبه ولعلّهُ أدرى به ومن الخلقِ الكريم أن يغفر الصديق هفوات صديقه، كما يقول الشاعر: وكنتُ إذا الصديقُ أراد غيظي وشرّقني على ظمإ بِريقي غفرتُ ذنوبهُ وكظمتُ غيظي مخافة أن أعيش بلا صديق والواقع أن التآلف والتحابب بين الأصدقاء قد يكون منشؤُهُ تجاوبا نفسيا وروحيا كما يدل على ذلك حديث رسول الله ے «الأرواح أجناد مُجنّدة فما تعارف منها ائتلفْ وما تنافر منها اختلفْ». وتقتضي مجالسة الأصدقاء آدابا خاصة وسلوكا حضاريا راقيا ومن ذلك تجنّبُ اللوم والعتاب كقول الشاعر: إذا كنتَ في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلْقَ الذي لاتعاتبهُ وإنْ أنت لم تشربْ مرارا على الأذى ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربه ومن ذلك إظهار السرور عند الخبر السار والإطراقُ عند الخبر المحزن ومدُّ يد المساعدة بالغالية والنفيس، فقد روي أن القعقاع بن شور الهذلي كان إذا جالسه صديق يعطيه من ماله ويعينه على قضاء حوائجه وقد دخل يوما على معاوية فأجازه بألف دينار وكان إلى جانبه صديق فسحَ له في المجلس فدفعها إليه فأنشد يقول: وكنتُ جليسَ قعقاع بن شور وما يشْقى بقعقاع جليسُ ضحوكِ السنِّ إن نطقوا بخير وعند الشرّ مطراق عبوسُ وفي الحلقة القادمة من هذا الركن إن شاء الله نتطرّق إلى الحديث عن الأصدقاء قليلي الوفاء والصفاء لأصدقائهم الذين يميلون حيث تميلُ الرياحُ ويتنكرون لإخوانهم عندما يقلبُ لهم الدهرُ ظهْرَ المجن.